لا نعلم حقيقة ما يجري سرا ما بين الحكومتين الامريكية والايرانية، لذا فليس لنا إلا أن نحكم على الظاهر. والظاهر هو أن علاقات البلدين منذ قيام ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران يسودها التوتر والشكوك وانعدام الثقة الذي وصل اليوم إلى حد العداء وتبادل التهديد والوعيد المنذر بنشوب حرب جديدة في بحيرة الخليج.
وتشتكي واشنطون وتولول وتـُخيف العالم من البرنامج النووي الايراني وتقول أن إمتلاك طهران للقنبلة النووية خط أحمر لن تسمح بتجاوزه (كان الخط الأحمر إلى وقت قريب هو تخصيب اليورانيوم، لكنه تحول مؤخرا على لسان وزير الدفاع ليون بانيتا إلى إمتلاك القدرات النووية) لكنها تنسى أو تتغافل عمدا عن الحقيقة التاريخية المعروفة وهي أن بدايات إقتحام الإيرانيين للمعارف النووية كانت في ستينات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1967 حينما زودت واشنطون حكومة الشاه بمفاعل نووي يعمل بالماء الخفيف بقوة خمسة ميغاوات، وذلك ضمن برنامج كان سبق وأن دشنه الرئيس الجمهوري "دوايت أيزنهاور" في الخمسينات تحت إسم "الذرة الأمريكية من أجل السلام". أي أن الأمريكيين هم من منحوا الإيرانيين النواة التي إستخدمها الشاه لإطلاق برنامج إيران النووي لتوليد الكهرباء، وهو ما مثــّل لاحقا حجر الزاوية في البرنامج النووي لنظام آيات الله الحالي. هذا عن السلاح النووي، أما عن السلاح التقليدي فيجب ألا ننسى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان قد زودت نظام ولاية الفقيه الإيراني – في عزّ عدائها له - بالأسلحة الصاروخية من خلال الصفقة التي عــُرفت بإسم "إيران كونترا" والتي عـُدّت فضيحة للطرفين!
وبطبيعة الحال، فإن ما سبق ليس كل شيء! فالإدارة الأمريكية الحالية والسابقة كثيرا ما صدعت رؤوسنا بحقيقة لا يختلف عليها إثنان وهي الممارسات القمعية لأجهزة الإستخبارات الإيرانية وأجهزة الحرس الثوري ضد المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان الإيرانيين سواء في صفوف الأكثرية الفارسية أو في صفوف الأقليات العربية والبلوشية والآذارية والكردية والتركمانية والأرمنية. لكن من ياترى ساهم في وضع اللبنات الأولى لمؤسسات القمع والتعذيب الإيرانية، ودرب قوات الامن على وسائلها وفنونها؟ أليست هي الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أقنعت الشاه الراحل بأن بقاءه في هرم السلطة مرهون بنظام أمني حديدي، فكان أن إعتمد الأخير على "السافاك" كمؤسسة أمنية رهيبة تدرب عناصرها على ايدي رجال المخابرات المركزية. وحينما سقط الشاه أورث السافاك ثقافته ووسائله الامنية العنيفة إلى الجهاز الامني والمخابراتي الحالي الذي يعمل تحت أمرة الحرس الثوري بإسم "فافاك"
إلى ذلك يشتكي الأمريكيون من تمدد النظام الإيراني الحالي، وتوسع نفوذه في المنطقة، وتدخله في شئون جيرانه. لكن السؤال البسيط الذي يمكن ان يوجه إليهم في هذا السياق هو من سمح لطهران ببسط نفوذها وسيطرتها على مفاصل إحدى أهم دول الشرق الأوسط موقعا وثروة وهي العراق؟ ألم تكونوا أنتم من قدم بلاد الرافدين على طبق من ذهب لهم في الوقت الذي كان بإمكانكم فيه أن تحولوا دون وقعوها في قبضة الإيرانيين، وبالتالي تحافظوا عليها من الإنحدار نحو الطائفية البغيضة والإحتراب الداخلي والتمزق السياسي والتحول إلى تابع ذليل لطهران ومنفذ لمخططاتها الاقليمية؟
ومؤخرا صادق الرئيس باراك أوباما على تشريع أجازه الكونغرس حول التصدي لمحاولات إيران مد أذرعتها ونفوذها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة أي أمريكا اللاتينية. والسؤال الذي لا بد من طرحه هو لماذا إنتظرت واشنطون كل هذا الوقت للقيام بذلك، وهي التي تعلم قبل غيرها (بفضل تفوق أجهزتها المخابراتية والتجسسية) أن مساعي طهران للحصول على موطيء قدم في امريكا اللاتينية مشروع ايراني قديم بدأ مع مجيء آيات الله للسلطــة في 1979، وإنْ إشتد زخمه بوصول الرئيس الحالي محمودي أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005 بالتزامن تقريبا مع ظهور الحكومات ذات التوجهات اليسارية الثورية في أمريكا الجنوبية، ولا سيما حكومة "هوغو شافيز" الراديكالية في فنزويلا التي يقود وزارة الداخلية فيها شخصية من أصل سوري متعاون مع حزب الله، لجهة تسهيل مرور وإنتقال عناصر الأخير ومدهم بالأوراق الثبوتية المزورة لتسهيل قيامهم بالادوار التخريبية والتجسسية المنوطة بهم.
ومما تعرفه واشنطون ومخابراتها المركزية أن مشروع التغلغل الإيراني في أمريكا اللاتينية قد بدأ بتحرك دبلوماسي نشط مع تقديم القروض والمساعدات والمنح، ثم تبعته تحركات استخباراتية قادتها اجهزة الحرس الثوري وأدواتها الخارجية كخلايا حزب الله اللبناني. كما أن الولايات المتحدة على علم مبكر بأن الإستخبارات الإيرانية قد نجحت في بناء علاقات متينة مع مخابرات فنزويلا والاكوادور وبوليفيا وكوبا ونيكاراغوا وغيرها من الدول اللاتينية التي تحكمها أحزاب يسارية ثورية، فضلا عن علاقات تبادل منافع أسستها طهران مع كارتلات المخدرات والقرصنة الفكرية وعصابات تهريب الاسلحة في القارة. ومن ثمار هذه العلاقات أن طهران وكاراكاس تملكان اليوم مشاريع ومؤسسات مشتركة بقيمة أربعة بلايين دولار (من ضمنها مصرف مشترك ومصانع لإنتاج المتفجرات)، وأن الإيرانيين والإكوادوريين شركاء في أكثر من عشرة مشاريع للطاقة والتنمية الزراعية والسمكية، فضلا عن أن طهران تعتبر اليوم مصدرا مهما لأسلحة الجيش الإكوادوري. وهناك ايضا إتفاقيات بقيمة 1.1 بليون دولار بين طهران ونظام بوليفيا الراديكالي بقيادة "إيفو موراليس" لتطوير حقول الغاز والنفط في بوليفيا وتطوير قطاعها الزراعي والمنجمي والصناعي الخفيف. فلماذا تركت واشنطون لطهران الحبل على الغارب طوال هذه المدة، ثم جاءت اليوم فقط لتشتكي من إمتداد الأصابع الإيرانية إلى فنائها الخلفي؟
د.عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2012
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
والمعروف أن لواشنطون جملة من الملاحظات على النظام القائم في إيران تبرر بها موقفها العدائي منه، لكن دون أن تقول لنا أنها هي نفسها أي الولايات المتحدة من تسببت في تلك الأمور إبتداء! كيف؟
إن النظام الفقهي الايراني من وجهة النظر الامريكية نظام غير ديمقراطي، لكن من ياترى كان السبب في الحيلولة دون إزدهار الديمقراطية وتصلب عودها في إيران؟ وبعبارة أخرى، من قام بتصفية الديمقراطية الوليدة في إيران في مهدها في خمسينات القرن الماضي؟ أليست هي المخابرات المركزية الأمريكية التي خططت للإنقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بزعامة الدكتور محمد مصدق في صيف 1953 بالتعاون مع الانجليز ؟
ويصف الامريكيون نظام طهران الحالي بالنظام المارق والساعي إلى ضرب المصالح الامريكية والغربية في الخليج العربي، لكن من يا ترى ساهم بصمته وسكوته ودعمه الخفي في وصول مثل هذا النظام المشاغب الى السلطة في طهران كبديل لنظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي ، رغم كل مساوئه وملاحظاتنا نحن عرب الخليج عليه، لم يكن زعيما مغامرا يتحرش بجيرانه، ويهدد الآخر بالدمار، ويؤسس الجماعات الميليشياوية خارج حدود بلاده من أجل ممارسة الارهاب، على نحو ما فعله خلفاؤه؟ ألم يكن من صمت على الإطاحة بالشاه هو إدارة الرئيس الامريكي الاسبق جيمي كارتر؟ وألم يكن من إحتضن معارضي الشاه وقدم لهم المأوى والحماية والأدوات الإعلامية بموافقة امريكية/غربية هو إدارة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان؟وتشتكي واشنطون وتولول وتـُخيف العالم من البرنامج النووي الايراني وتقول أن إمتلاك طهران للقنبلة النووية خط أحمر لن تسمح بتجاوزه (كان الخط الأحمر إلى وقت قريب هو تخصيب اليورانيوم، لكنه تحول مؤخرا على لسان وزير الدفاع ليون بانيتا إلى إمتلاك القدرات النووية) لكنها تنسى أو تتغافل عمدا عن الحقيقة التاريخية المعروفة وهي أن بدايات إقتحام الإيرانيين للمعارف النووية كانت في ستينات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1967 حينما زودت واشنطون حكومة الشاه بمفاعل نووي يعمل بالماء الخفيف بقوة خمسة ميغاوات، وذلك ضمن برنامج كان سبق وأن دشنه الرئيس الجمهوري "دوايت أيزنهاور" في الخمسينات تحت إسم "الذرة الأمريكية من أجل السلام". أي أن الأمريكيين هم من منحوا الإيرانيين النواة التي إستخدمها الشاه لإطلاق برنامج إيران النووي لتوليد الكهرباء، وهو ما مثــّل لاحقا حجر الزاوية في البرنامج النووي لنظام آيات الله الحالي. هذا عن السلاح النووي، أما عن السلاح التقليدي فيجب ألا ننسى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان قد زودت نظام ولاية الفقيه الإيراني – في عزّ عدائها له - بالأسلحة الصاروخية من خلال الصفقة التي عــُرفت بإسم "إيران كونترا" والتي عـُدّت فضيحة للطرفين!
وبطبيعة الحال، فإن ما سبق ليس كل شيء! فالإدارة الأمريكية الحالية والسابقة كثيرا ما صدعت رؤوسنا بحقيقة لا يختلف عليها إثنان وهي الممارسات القمعية لأجهزة الإستخبارات الإيرانية وأجهزة الحرس الثوري ضد المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان الإيرانيين سواء في صفوف الأكثرية الفارسية أو في صفوف الأقليات العربية والبلوشية والآذارية والكردية والتركمانية والأرمنية. لكن من ياترى ساهم في وضع اللبنات الأولى لمؤسسات القمع والتعذيب الإيرانية، ودرب قوات الامن على وسائلها وفنونها؟ أليست هي الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أقنعت الشاه الراحل بأن بقاءه في هرم السلطة مرهون بنظام أمني حديدي، فكان أن إعتمد الأخير على "السافاك" كمؤسسة أمنية رهيبة تدرب عناصرها على ايدي رجال المخابرات المركزية. وحينما سقط الشاه أورث السافاك ثقافته ووسائله الامنية العنيفة إلى الجهاز الامني والمخابراتي الحالي الذي يعمل تحت أمرة الحرس الثوري بإسم "فافاك"
إلى ذلك يشتكي الأمريكيون من تمدد النظام الإيراني الحالي، وتوسع نفوذه في المنطقة، وتدخله في شئون جيرانه. لكن السؤال البسيط الذي يمكن ان يوجه إليهم في هذا السياق هو من سمح لطهران ببسط نفوذها وسيطرتها على مفاصل إحدى أهم دول الشرق الأوسط موقعا وثروة وهي العراق؟ ألم تكونوا أنتم من قدم بلاد الرافدين على طبق من ذهب لهم في الوقت الذي كان بإمكانكم فيه أن تحولوا دون وقعوها في قبضة الإيرانيين، وبالتالي تحافظوا عليها من الإنحدار نحو الطائفية البغيضة والإحتراب الداخلي والتمزق السياسي والتحول إلى تابع ذليل لطهران ومنفذ لمخططاتها الاقليمية؟
ومؤخرا صادق الرئيس باراك أوباما على تشريع أجازه الكونغرس حول التصدي لمحاولات إيران مد أذرعتها ونفوذها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة أي أمريكا اللاتينية. والسؤال الذي لا بد من طرحه هو لماذا إنتظرت واشنطون كل هذا الوقت للقيام بذلك، وهي التي تعلم قبل غيرها (بفضل تفوق أجهزتها المخابراتية والتجسسية) أن مساعي طهران للحصول على موطيء قدم في امريكا اللاتينية مشروع ايراني قديم بدأ مع مجيء آيات الله للسلطــة في 1979، وإنْ إشتد زخمه بوصول الرئيس الحالي محمودي أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005 بالتزامن تقريبا مع ظهور الحكومات ذات التوجهات اليسارية الثورية في أمريكا الجنوبية، ولا سيما حكومة "هوغو شافيز" الراديكالية في فنزويلا التي يقود وزارة الداخلية فيها شخصية من أصل سوري متعاون مع حزب الله، لجهة تسهيل مرور وإنتقال عناصر الأخير ومدهم بالأوراق الثبوتية المزورة لتسهيل قيامهم بالادوار التخريبية والتجسسية المنوطة بهم.
ومما تعرفه واشنطون ومخابراتها المركزية أن مشروع التغلغل الإيراني في أمريكا اللاتينية قد بدأ بتحرك دبلوماسي نشط مع تقديم القروض والمساعدات والمنح، ثم تبعته تحركات استخباراتية قادتها اجهزة الحرس الثوري وأدواتها الخارجية كخلايا حزب الله اللبناني. كما أن الولايات المتحدة على علم مبكر بأن الإستخبارات الإيرانية قد نجحت في بناء علاقات متينة مع مخابرات فنزويلا والاكوادور وبوليفيا وكوبا ونيكاراغوا وغيرها من الدول اللاتينية التي تحكمها أحزاب يسارية ثورية، فضلا عن علاقات تبادل منافع أسستها طهران مع كارتلات المخدرات والقرصنة الفكرية وعصابات تهريب الاسلحة في القارة. ومن ثمار هذه العلاقات أن طهران وكاراكاس تملكان اليوم مشاريع ومؤسسات مشتركة بقيمة أربعة بلايين دولار (من ضمنها مصرف مشترك ومصانع لإنتاج المتفجرات)، وأن الإيرانيين والإكوادوريين شركاء في أكثر من عشرة مشاريع للطاقة والتنمية الزراعية والسمكية، فضلا عن أن طهران تعتبر اليوم مصدرا مهما لأسلحة الجيش الإكوادوري. وهناك ايضا إتفاقيات بقيمة 1.1 بليون دولار بين طهران ونظام بوليفيا الراديكالي بقيادة "إيفو موراليس" لتطوير حقول الغاز والنفط في بوليفيا وتطوير قطاعها الزراعي والمنجمي والصناعي الخفيف. فلماذا تركت واشنطون لطهران الحبل على الغارب طوال هذه المدة، ثم جاءت اليوم فقط لتشتكي من إمتداد الأصابع الإيرانية إلى فنائها الخلفي؟
د.عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2012
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق