النقد في جاليتنا/ جورج هاشم

النقد ظاهرة حضارية. واختفاء النقد ظاهرة تخلف. والنقد لا يعني المديح او الهجاء. التبخير او التحقير. النقد يعني الموضوعية وذكر السلبيات إن وُجِدت. وبالطبع ذكر الايجابيات ان وجدت ايضاً. في المجتمعات الديموقراطية، لا يخشون من النقد الصريح الذي يضع النقاط على الحروف. إن كان في السياسة او في الادب او في اي شأن من شؤون الحياة... ويتقدمون...أما في البلدان الديكتاتورية فلا نقد ولا رأي آخر. فقط مديح او هجاء. والويل لمن يتجرأ ويرمي بحصة في المستنقع الراكد... ونزداد تخلفاً...
معظم النقد في عالمنا العربي هو من نوع المديح او الهجاء.. فمنذ الادب الجاهلي وانت "أشعر الناس يا ابن اخي"... أما كيف هو أشعر الناس؟ فهنا الجريمة لو سألت... معارك الهجاء رافقت الادب العربي منذ نشأته. أشهر معاركه أشعلتها عبارة " جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر" . ورغم رقي العبارة عما تعود عليه العرب من نقد، الا انها أدَّت الى حرب طاحنة بين جرير من جهة والفرزدق والاخطل من جهة ثانية بمشاركة حشد من الشعراء في كل جانب. أُستعملت فيها كل انواع الشتائم والبذاءات. ولا زالت هذه البذاءات تتردد الى اليوم ضد كل من يتجرأ ويسأل سؤالاً او يبدي ملاحظة... ففي معظم  المعارك النقدية التي حصلت، كان ملخصها: لنا الصدر ولك القبر. أنا الاديب الاول، او الشاعر الاول، او الروائي الاول وأنت الصفر... افراد قلائل تقبلوا النقد وناقشوا الناقد بكل موضوعية ومحبة. مثل ما حصل بين شيخ نقّاد العربية مارون عبود وشاعر العصر "الملهم" نزار قباني. فقصيدة نزار" كان اسمها جانين/ لقيتها، أذكر، في باريس من سنين ... "  لم تعجب الناقد الكبير بعد ان اثنى على غيرها من قصائده. فرد نزار اروع رد قرأته لشاعر ...
أما النقد في جاليتنا فَ 99 % منه مديح او هجاء. تحقير او تبخير. لا حلول وسط. مصفقون ومطبلون ومزمرون وراقصون في أفراح سيدهم. يقول احدهم قصيدة لا تعرف طعم الشعر فيتأوهون: يا للروعة! اذا خربش احدهم مقالة مليئة بالاغلاط والمغالطات قالوا: انت الصحافي الاول.  او إن كتب احدهم قصة مفككة مخلعة اسبغوا عليه كل ما في جعبة افعل التفضيل من صفات الفخامة والروعة...  ثم لا يتورعون ان يقولوا في قفاه ما قاله الفرزدق في جرير... وفي الوقت نفسه يقولون الشيء نفسه عن المبدع حقاً فتضيع الطاسة، ولم يعد القارىء بقادر على التمييز بين الاديب الاصيل والاديب المتوَّج بالاكاذيب... المداحون هؤلاء ، المصفقون، المتبرعون بأكذب الالقاب والجوائز... نسوا او تناسوا ان المديح الكاذب لا يعيش... أحد شعراء الامير بشير الشهابي كان اسمه بطرس كرامه. ملأ الاسماع وتربع على عرش زمانه، وكان الاقرب للامير. لم يترك حركة او اشارة من اشارات الامير الا ووصفها شعراً: اذا ذهب للصيد، اذا خاض معركة، اذا شرب، اكل، نوع المأكولات، اذا ابتسم او عبس... اذا كتمت معدة الامير  قال فيها شعراً واذا اسهلت عدَّها الفرج الذي يعم البلاد والعباد... مَن منكم يحفظ بيتاً واحداً مما قاله بطرس كرامه؟ او مَن منكم لا زال يذكر شاعراً بهذا الاسم؟
المتنبي، شاعر العرب في كل العصور، كتب قصائد لا تحصى في مديح سيف الدولة الحمداني، وغيره الكثير. لفَّ النسيان معظمها ولم يبق منها الا المواقف الانسانية العامة المتزاوجة مع عبقرية المتنبي. كم قصيدة كتب، كاذباً، مادحاً كافور الاخشيدي طمعاً في ولاية؟ مَن منكم يتذكر منها بيتاً واحداً؟ لكنه حين اطلق غاضباً، صادقاً، متألماً: عيد بأية حال عدتَ يا عيد... مَن منكم لا يعرفها ولا يستشهد بأبياتها؟ وشوقي، امير الشعراء، الامارة التي انكرها عليه طه حسين والعقاد ، وحقَّراها عاد حسين يقدمها للعقاد على طبق من كذب... مَن يتذكر بيتاً واحداً من الوف قالها شوقي مادحاً وليَ نعمته الخديوي؟ ولما صرخ: وللحرية الحمراء باب... ترددت اصداؤها من المحيط الى الخليج ولا زالت من مخزون الذاكرة الشعبية في مواقف النضال...
سيقف الشاعر هو وقصائده، بعد عمر طويل، امام التاريخ دون طباليه. لن ينفعه عدد الايادي التي صفقت له في حياته. ولا عدد المقالات التي مدحته وخلعت عليه اجمل الالقاب. ولا عدد الجوائز التي حصل عليها... إن لم يكن في شعره ما يستحق الحياة. فسيموت الشعر قبل موت صاحبه... وهذا حال الادب بالاجمال... فالناقد الذي يدل على السلبيات قبل الايجابيات هو انفع للشاعر، على المدى الطويل، اذا لم يسكر من خمر المدّاحين المغشوش... الادب الاصيل لا يموت. أعرف شاعراً مات منذ اربعة عشر سنة. حاولوا اغراءه بامارة الشعر في استراليا فرفضها رغم انه الاشعر. ابتعد عن الاضواء والمصفقين النفعيين. لم يهتم يوماً بتدوين اشعاره. او بالدعاية لها. حصلتُ مؤخراً على بعض قصائده الرائعة. وانا اعمل حالياً على نشرها في كتاب. ولو لم افعل انا ذلك فلا شك سيأتي متذوق آخر ويجمعها...
فتواضع يا حامل القلم، ففي ادبك الغث والثمين كما في ادب كل من سبقوك دون استثناء. يجب ان تكون انت اول الناقدين لادبك. احذف ولا تخف. ولا تُثْبت الا ابناء الحياة. اما المخلوقات الادبية المشوهة فادفنها وخطيئتك في رقبتي. الوأد هنا فضيلة تُكافأ عليها في الاخرة... رغم اني اعرف ان الكثيرين منكم يعيشون ليومهم. وهم لا شك يعرفون... وانت ايها المطبِّل، عد للعشرة. احفظ ماء الوجه. اعط رأياً ان كان من اختصاصك، واحجم ان كنت لا تعرف... فليس العيب ان تقول: هذا ليس مجالي. العيب كل العيب ان تدَّعي المعرفة في كل شيء... أعرف ان هذا الكلام لن يرضي المتعيشين على أكف وحناجر اعضاء فرقة " حكّ لي لأحك لك..." ولكنه لا شك يرضي ضميري، كما يرضي الكثيرين ايضاً

CONVERSATION

2 comments:

بهاء محمد ـ سيراليون يقول...

صاحبك هذا لا يصلح للشعر لأنه لم يهتم بشعره، تماماً كالأم الفاشلة التي تنجب أطفالاً ولا أجمل، ولا ترضعهم، لا بل تتركهم للضياع. وأنت تعترف يا أخ جورج أن صاحبك لم يهتم بنشر أو جمع شعره فلماذا تهتم أنت، اتركه للموت لأنه لا يستحق الحياة. شاعر مهمل فاشل، لم يحترم شعره، فمن عرض عليه امارة الشعر كان مخبولاً عقليا، فشاعر لم يحترم شعره، وجاءه صديق بعد 14 سنة من وفاته ليجمع بعض أشعاره لن أقرأه ولو كان متنبي العصر. انه باختصار شديد شاعر لا يستحق نعمة الشعر.

جورج هاشم يقول...

الاخ بهاء محمد،
لا تظلم الشاعر. ورغم قولك انك "لن تقرأه ولو كان متنبي العصر..." فاسمح لي ان اعرض عليك مقطعاً من قصيدة موجهة الى ابنه: "يبني قبل ما بلّشت داديك/والارض كانت فيك قصراني/كانت عيوني عالهدا تمشيك/ومعمشقة كفوفك باجفاني/وارجع بحلمي لعمرك ولاقيك/ ومن حلم نفلت نكمش التاني/خلـــي صبح نوارك يصليك/تا يكبر بتشرين ايمانـــي/يا غصن مني بضل ورّق فيك / وما بخاف لا تصفر الواني/وجودك قصيدة حب وقوافيك/نيران من بركان وجداني/
بحلمي بسكوني بيقظتي بغنيك/وما ضل عندي غيرك غناني/بغنيلك مواويل تـــا غفّيك/وكــــل صبح بفيقك وبقول/بكرا بتوعى كل قصداني..."
أنا احترم رأيك ولكن لكل شاعر ظروفه... ولنفترض ان الام ظلمت ابنها فهل نظلمه نحن ايضا؟ مع تقديري.