ذهبتُ لجلب السكائر من الدكان ، لقد زحفتُ كما يزحفُ حيوانٌ منقرض على وجه الأرض ، رأيتُ الناس ، وأضواء السيارات ، و آثار أقدام العجائز فوق آثار أقدام الطالبات ، المطر يُراقبني كذئب ، لكنه لم يهطل ، أعتقد أن هذا ما يسميه البشر ( الحياة الدنيا ) ...
كل الضجيج و الشّجار يصدر عن هذا المكان ، أفكار غريبة خطرتْ على بالي و أنا أمشي . رجلٌ يمتلك دماغي يجب أن لا يقرأ و أن لا يمشي ، لأنّ الأفكار تطعنني حين أفعل أشياءً كهذه ، يقولون إن الفلسفة المشائية نسبةً لأرسطو لأنه " أول مَن مشى بالعقل " وتبعه الناس .
لا أتفق مع هذا ، بل يروق لي ما ورد في المِلَل والنّحل "أمّا المشّاؤون بشكل مطلق ، فهم من أهل لوقين وأفلاطون لاحترامه الحكمة كان يعلّمها دائماً وهو في حال المشي، وتبعه على ذلك أرسطو" .
ومن هذا الباب ، تجربتي تقول إن الحكمة لها علاقة بالمشي . لهذا أحاول أن لا أمشي .
هذا صوت لا يمكن طمره ، ولا يُنكرهُ إلّا مُشرك .
لقد جاء وقال لي في المشي ، إنك بلا عائلة ، و هذا نُقصان في العقل ، لماذا ؟ .
ربما لأن العائلة تنقسم إلى قسمين ، آباءٌ يودّعون الدّنيا بالصلاة ، و أبناء يستعدون لها بالمدارس . هذا التداخل الإسلامي يجعل العائلة الشرقية كمالاً للعقل .
أنا وحيد جداً ، حتى عقلي وحيد ، لَم أعد أُفكّر بنفسي ، لا قلق ، لا أهداف ، لا أحزان .
أحتقر الذين يكتبون أحزانهم لأنهم يجهلون حقيقة البشر و لعلهم يُحسنون الظن كثيراً ، لكن ما يُزعجني هو النقصان العقلي .
بيتي هذا عبارة عن رجل وحيد يودّعُ الدّنيا حيث لا أحد يستقبلها . لأوّل مرّة تبدو الحياة الدّنيا مُهانة بهذه الطريقة ، و مطرودة .
هذه الحروف سحرٌ وفتنة ، و عليك أن ترى و تسمع لتخبرنا شيئاً مهماً .
حبيبتي تتّصل كل خمس دقائق لتسألني عن التسوّق ، وماذا للعشاء ؟.
هذا ليس سبب الإتصال ، هي تخاف من تصاعد الرّنين في أذنيّ ، تحاول شدّي قبل أن ينقطع الحبل و أغرق الى الأبد .
الجوع الى الحقيقة سيجلب الناس دوماً إلى هنا . أقرأ كلامي فألاحظ النفس الصوفي .
أمر لا مفرّ منه ، حين تعيش كما يعيش راهب .
أذلّني المتنبّي و مرّغ أنفي بالتّراب و هو أحد الأسباب التي لأجلها تركت الكتابة " فلا يرُدُّ عليك الفائت الحَزَنُ " .
أنظر ورائي فأرى حياتي على كرسي متحرّك . لا أعرف مرضها بالضّبط ، لكنها كأيّة حياة غير مهمة لرجل من أسرة فقيرة ، يحمله الشباب على جبال الطموح ، ثم تكسره الحكمة على ظهر الحقيقة البارد .
الراحة الكبرى هي دائماً " على جسرٍ من التّعب " لقد أتعبتُ نفسي كثيراً بلا سبب . كنتُ أُحاول إصلاح حياتي ، لم أكن أعلم أن حياتي هي من ذلك النوع الرّخيص الذي لا يُمكن إصلاحه .
الراحة دبّت في روحي حين أدركتُ ذلك ، جلستُ ولم أحاول النهوض ، جلستُ كما يجلس متّهم بعد صدور الحكم . لم يكن هناك داعٍ لكل تلك المحاولات .
الأمل ، و الدفاع ، و الرجاء .
ماذا أفعل ببراءتي سوى البحث الشاق مجدداً عن تُهمة جديدة . البيوت التي سكنتها تطاردني ، عشر مرات اشتريت أثاثاً و أحرقته . يقولون إن الوطني السوري ابراهيم هنانو فعل ذلك عام ١٩١٩ م وأعلن ثورة سوريا على الإستعمار الفرنسي .
هنانو يقول إنه لم يكن يريد أثاثاً في بلد محتل . لكنني أشعر أن الأرض كلها مُحتلّة ولا أريد أثاثاً و إستبرق في هذه الدنيا .
الأريكة سريري ، و زوجتي ، و أولادي معظم عمري .
تبدو الحياة أوضح حين ترميها و راء ظهرك ، لأنها تتحوّل إلى ذاكرة .
ترتعد يدي وأنا أكتب ليس لأنني (عَدَمٌ) فقط ، بل لأنني فقدت الرغبة بقراءة كلامي مكتوباً ، و فقدتُّ اهتمامي برأي الناس فيه .
أتكوّر على نفسي كابن عُرس و أعلم أن الإنسان لا يستطيع شيئاً لأخيه الإنسان .
هذا هو الدرس الأول في القرآن الكريم .
0 comments:
إرسال تعليق