في أعقاب إحتجاجات ما أطلق عليه "الربيع العربي"، ووصول تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة في أكثر من بلد شرق أوسطي، إرتفعت في تلك البلدان دعوات "تطبيق الشريعة الإسلامية" وشعارات "الإسلام هو الحل" ، وإنقسمت مجتمعاتها ما بين مؤيد يرى في تطبيق الشريعة حماية للقيم وحلا للكثير من المعضلات، ومعترض يرى فيه إنقلابا على الأساليب الديمقراطية، وتحكما في خيارات الناس وحرياتهم، وبداية لفرض نمط من الحكم الديكتاتوري الإقصائي المستبد، ومصادرة لحقوق المواطنة وما تم تحقيقه من حريات مدنية وشخصية كفلها القانون وصانها الوعي، لاسيما وأن بعض الدول التي رفعت فيها تلك الشعارات والمطالب يوجد ضمن نسيجها الإجتماعي من لا يدين بالإسلام (مثل مصر)، أو لها إرث طويل من العلمانية (مثل تونس)
ثم جاءت مؤخرا الإحتجاجات الجماهيرية في تركيا ضد حزب العدالة والتنمية ذي الهوى الإخواني بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لتثبت أن الأحزاب الإسلامية مهما حققت للجماهير من إنجازات إقتصادية مشهودة وتحسن مضطرد في مستويات معيشتها، ومهما حاولت بذكاء وسرية، وحيطة شديدة، ومن خلال القنوات الديمقراطية، النفاذ إلى قلاع العلمانية بغية جرفها تمهيدا لإقامة الدولة الدينية الخالصة، فإن إيمان الجماهير بالتعدد والتنوع وحرية الإختيار والدولة المدنية يبقى أقوى وأعمق.
هذه الأحداث والتطورات شكلت دافعا لمؤسسة "بي. إي. دبليو" (مؤسسة أبحاث ودراسات أمريكية، مقرها العاصمة واشنطون، وتأسست في 1990 بتمويل خاص من أجل قياس إتجاهات الرأي في العالم حول القضايا والظواهر المثيرة للجدل من تلك التي تشغل بال وسائل الإعلام وصناع القرار) لعمل بحث ميداني، وإجراء مقابلات مع أكثر من 38 ألف مسلم من ذوي الجنسيات والثقافات واللغات المختلفة في مناطق جغرافية متنوعة من تلك التي تعيش فيها نسبة معتبرة من مسلمي العالم مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (حيث يعيش 20% من مسلمي العالم)، وشرق ووسط وجنوب أوروبا (2%) ، وجنوب وجنوب شرق آسيا (62%)، وآسيا الوسطى (9%)، ومنطقة جنوب الصحراء (30%). أما سؤال البحث المحوري فقد كان: "بإعتبارك مسلما، هل تؤيد تطبيق الشريعة في بلدك؟".
وعلى الرغم من أن العينة المختارة شملت 38 ألف إنسان مسلم، وهو رقم ضئيل جدا مقارنة بالعدد الاجمالي للمسلمين في العالم والذي وصل بحسب إحصائيات عام 2010 إلى نحو 1.62 مليار نسمة، إلا أن في نتائج البحث ما يغري بإستعراضه. من هذه النتائج:
• انه حتى في الدول الاسلامية التي يوجد فيها دعم وحماس قويين لتطبيق أحكام الشريعة، فإن غالبية من إستطلعت آراؤهم فضلوا مبدأ منح المواطن حريته لجهة عقيدته ومذهبه وأداء طقوسه الروحانية. فمثلا في باكستان، حيث 179 مليون من أصل سكانها البالغ تعدادهم 183 مليون نسمة هم من المسلمين، إتخذ نحو 75% من هؤلاء هذا المنحى، غير أن 84% منهم إستحسن أن تــُدرج أحكام الشريعة ضمن القوانين المعمول بها مع تطبيقها على المسلمين فقط.
• في نصف الدول الإسلامية التي أجرى فيها البحث وعددها 38 دولة، كان هناك توجه غالب لمنح القادة الدينيين نوعا من النفوذ للتأثير على القضايا السياسية. فمثلا كان هذا رأي 37% من مسلمي الأردن، و41% من مسلمي ماليزيا، و53 % من مسلمي أفغانستان.
• التأييد الساحق لجعل أحكام الشريعة جزءا من القوانين المعمول بها في الدولة جاء معظمه من دول تعطي دساتيرها الأفضلية للإسلام على سائر الأديان الأخرى مثل باكستان (أيد هذا التوجه نحو 84% من مسلميها) والمغرب (83%). والمثير في هذا السياق أن أفغانستان، التي ذاقت الأمرين من تطبيق الشريعة على يد نظام طالبان البائد، طالب 99% من سكانها المسلمين البالغ تعدادهم 29.5 مليون نسمة بتطبيق أحكام الشريعة. كما أن البنغلاديشيين المسلمين طالبوا بالشيء نفسه بنسبة 84% على الرغم من أنهم ينعمون بدستور علماني يحفظ حقوق وحريات مختلف مكونات البلاد، ويدافع عن عقائدهم الدينية وطقوسهم الروحانية.
• لوحظ وجود تباين كبير بين سكان جنوب وشرق أوروبا لجهة تطبيق الشريعة. فبينما بلغت نسبة المؤيدين في روسيا الإتحادية ( حيث يعيش 16.4 مليون مسلم من أصل عدد السكان الكلي وهو 143 مليون نسمة) 42 %، كان المؤيدون في كوسوفو 20%، وفي البوسنة والهرسك 15%. أما في ألبانيا فقد أيد مثل هذا التوجه نحو 12% فقط من إجمالي مسلميها البالغ تعدادهم 2.6 مليون نسمة (من أصل عدد السكان الكلي وهو 2.82 مليون نسمة).
• التباين السابق لوحظ أيضا بين مسلمي جمهوريات آسيا الوسطى. فقد أيد تطبيق الشريعة 35% من مسلمي قرقيزستان البالغ تعدادهم 4.9 مليون من أصل 5.5 مليون نسمة، و27 % من مسلمي طاجيكستان البالغ تعدادهم سبعة ملايين من أصل ثمانية ملايين نسمة، فيما كانت هذه النسبة أقل بكثير بين مسلمي تركيا (12%) وكازاخستان (10%) وآذربيجان (8%).
• في دول جنوب شرق آسيا، أظهرت نتائج البحث تحبيذ 86% من مسلمي ماليزيا المقدر عددهم بـ 17.4 مليون من أصل عدد السكان الكلي وهو 29.7 مليون نسمة تطبيق أحكام الشريعة، مقابل 72 % من مسلمي إندونيسيا البالغ تعدادهم204.85 مليون من أصل 237.64 مليون نسمة. وكانت النسبة في أوساط الأقلية المسلمة في تايلاند (حوالي أربعة ملايين نسمة) هي 77%.
• فيما يتعلق بدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أظهرت النتائج أن أكثر المؤيدين لتطبيق أحكام الشريعة هم في العراق (91% من إجمالي عدد مسلميها البالغ 31.12 مليون نسمة)، يليهم مسلمو الأراضي الفلسطينية (89%)، فمسلمو المغرب (83%) فمسلمو مصر (74%) فمسلمو الأردن (71%). وجاء مسلمو لبنان في ذيل القائمة بـ 29% فقط.
• في معظم الدول التي أستطلعت آراء شعوبها المسلمة، كانت نسبة المؤيدين لإقامة الحدود الشرعية، كقطع يد السارق ورجم الزاني وقتل المرتد، منخفضة للغاية. كما كان هناك تباين ملحوظ فيما يتعلق بتأييد عقوبة التجديف والتعرض للذات الإلهية وأحكام الطلاق والميراث ورأي الشريعة في التخطيط الأسري، الأمر الذي يعكس قلة وعي الكثيرين بمفهوم تطبيق أحكام الشريعة.
• في معظم الدول التي شملها البحث، قررت الغالبية – سواء في صفوف الرجال أو النساء – أن المرأة يجب أن تطيع الرجل وتلتزم بخدمته. فتسعة من كل عشرة أشخاص تمت مقابلتهم في العراق والمغرب وتونس وإندونيسيا وأفغانستان وماليزيا كان هذا رأيهم. لكن من جهة أخرى قررت الغالبية في معظم دول البحث الثمان والثلاثين انه يجب إعطاء المرأة الحق لجهة ما تقرره لنفسها ولا سيما حول إرتداء الحجاب من عدمه.
• أتضح من الدراسة التي أجريت أن المسلمين، أيا كانت جنسيتهم، يفضلون الديمقراطية على الحكم الشمولي، ويستمتعون بإستخدام نتاج الحضارة الغربية، لكنهم في الوقت نفسه يعادون هذه الحضارة وينسبون إليها تدمير الأخلاق والفضيلة، الأمر الذي يعكس نوعا من الإزدواجية.
د.عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يوليو 2013
الايميل:Elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق