بعد أقل من ثلاثة شهور ستجري الانتخابات للمجالس البلدية والمحلّية في مدننا وقرانا العربية. لن يختلف اثنان على أن الانتخابات المحلّية تعدّ من أهم الأحداث السياسية الاجتماعية التي تجري في مجتمعنا العربي. ربما تكون هذه أهم من الانتخابات للكنيست وذلك لأن نسبة المشاركين فيها أكبر بكثير، ومحاور تفاعلاتها ذات تأثير مباشر بين الناس، وما تخلّفه من نتائج يبقى محفورًا في وجه هذه الجماهير، ندبًا على أغلب الأحوال.
حاولت إسرائيل "الفتيّة" استغلال ما كان سائدًا من قيم وواقع في مجتمعاتنا ووظفت ذلك خدمًة لمصالحها ومآربها. كان الهدف يرمي إلى تكريس الفرقة، ولذلك سعت إلى تعزيز التفرقة الدينية وتعريف من بقي من الفلسطينيين على أراضيهم وفقًا لمركّبات تفتيتية مثل الملل والطوائف من جهة، وتغذية الانتماءات العائلية و"تلميع" دور المخاتير والوجاهات والمشايخ من جهة أخرى. إسرائيل شقيت لتبقينا خرافًا ضالة، وسخرت من أجل ذلك الرب والأنبياء وبعضًا من ضعاف النفوس العرب وحبّيبي النفخ والجاه الملفوفين بعباءات الرياء والخيانة المقنعة.
ما أحرزته إسرائيل في الخمسينيات والستينيات، رغم خضوع الأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها لأنياب حكم عسكري قاس، لم يرقَ لما حلمت به وسعت إليه. قيادة تلك الجماهير وقفت لسياسات حكّام إسرائيل بالمرصاد، وناضلت بشراسة وبطولة من أجل هدفين كبيرين أساسيين: البقاء على أرض الوطن، وإفشال كل محاولات قادة إسرائيل تهجير الباقين، والتأكيد على أن الباقين هم أقلّية قومية فلسطينية صامدة على أرضها وفي وطنها، رغم ما رددته أكثريّة من "الأشقاء" العرب، وبعضهم فعل ذلك عن جهل وأمّية، وآخرون عن خيانة وتستير لما اقترفوه من جريمة وتآمر علينا نحن المنكوبين. فشلت إسرائيل بتحويلنا إلى خراف ضالة تحتمي بعباءة مختار أو جلباب شيخ أو بعزوة مرضيّ "إيدو طايلة". نجحت القيادة بإعادة الروح المفقودة لجسد الجماهير التي بدأت تستوعب وتذوّت معاني البقاء في الوطن كجزء من شعب ومفاهيم وقيم. معظم قادة تلك الجماهير كانوا من الشيوعيين التقدميين. مهما حاول "الدارسون" و"المحققون" و"المثقفون" أن يتحايلوا على الواقع وأن يقرأوه بأعين الحاضر أو المغرض، تبقى الحقيقة البسيطة الساطعة؛ كثير من مدننا والقرى تحوّلت إلى قلاع جاثمة على صدر الحلم الصهيوني.
لست في معرض سرد تاريخي لتلك العقود، لكنّني أكتب عن ذلك التاريخ وتلك الحقائق كي أنعى حاضرًا، فمن منكم لا يرى سوء ما آلت إليه أوضاع مدننا وقرانا؟ من هو المعني بالحفاظ على ما هو صائر؟
من يدلّني على قرية أو مدينة ستُجرى فيها الانتخابات البلدية كما جرت في تلك السبعينيات عندما كانت الحناجر تهتف "بالطول بالعرض..." وتشق حجاب السماء؟ دلّوني على موقع ستُخاض فيه الانتخابات على أسس حزبية سياسية قيمية عامة واضحة؟ أين لا تتحكّم الطائفية والعائلية والبلطجية والسمسرة؟ أين من عيني تلكم القلاع يوم كان الفقراء، الكادحون، الشغيلة، الأحرار، المثقفون، الحرفيون الوطنيون، التقدميون، اليساريون، النساء الديمقراطيّات .. يهبون قللًا من حديد وفولاذ ليقودوا البلاد بكرامات تضمن الخدمات؟
كلّنا نرى ما هو حاصل وجميعنا يعرف من المستفيد من ذلك؟ حكّام إسرائيل بالطبع ولكنّهم ليسوا وحيدين.
الخاسر الكبير من تداعيّات الحالة السياسية بين الجماهير العربية في إسرائيل كانت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. المؤلم أن في معظم المواقع ضعفت "الجبهات"، وبل في بعضها انمحت عن خارطة العمل السياسي المحرك والمؤثر في تلك المجتمعات. الأكثر إيلامًا أن فيما تبقى لها من مواقع تتصرف قياداتها البلدية وفقًا لقوانين السوق الشائعة. المعايير محلّية بامتياز. العائلية وأخواتها مساطر تحدد وتفصّل. ربما سيقول قائل، الجبهة ليست وحيدة في هذا الكار، فالجميع يكيلون بهذه المكاييل. هذه هي المصيبة بعينها؛ أن نرى كيف يرضى حزب قومي عربي بأن يخوض زعيمه الانتخابات البلدية في قريته وهو يرأس قائمة عائلية مموهة باسم الحزب والمبدأ؟ وكيف يصح أن يقبل هذا الحزب أن "يهدي" اسمه لقائمة يرأسها من كان تاريخه مسجّلًا في صفحات الدولة وأحزابها الصهيونية؟ الجميع سواسية ليست بحجة وتبرير مقبولين. أيصح أن تقبل مثل هذه الحجة تبريرًا لخسارات الجبهات المحلية طيلة هذه السنين؟ من هو الرابح من هذا الصمت؟
ما يجري في هذه السنوات يخدم مصالح إسرائيل. ما فشلت بتحقيقه وهي "فتيّة" شرعت بإنجازه وما زالت. كان الشيوعيون والتقدميون الجبهويون صفوف الصد الأولى، عند أرجلهم تكسّرت مجاديف سياسة إسرائيل القمعية والعنصرية. اليوم، حينما نقر أن هذه القوى السياسية في تراجع وقوّتها في انحسار، نقر ّعمليًا أن مجاديف إسرائيل صارت هي الأقوى وسياساتها ستسجل أهدافًا في شباكنا المخروقة. عندما نقول إن القلاع تتهدم نقول عمليًا إن المخترة عادت لساحاتنا "وقطاريز السلطان" عادوا بأشكال وحلل جديدة.
الجبهة هي الخاسر الأكبر، لأمثالي، على الرغم من أنني لست عضوًا مؤطرًا في أي حزب أو تنظيم، هذه خسارة جسيمة. الخسارة الكبرى ستبقى للجماهير العريضة، خياراتها ستتقلص وفي كثير من المواقع ستكون ليست أكثر من خيارات الخاسرين العاجزين. فلمن آمنوا أن الدين لله والسياسة للبشر أجمعين، وأن العائلة لم تكن يومًا ميناء ولا ملجأ، وأن المخترة سمة لزمان حسبناه مضى، وأننا نسعى لمجالس كرامات وطنية أولًا وهذه ستضمن لنا الخدمات، ولمن آمن أن الانتماء الأول لشعبي وقوميتي وجميع ما يلي من انتماءات لا أكثر من فواصل على صفحة النص؛ لجميع هؤلاء في كثير من القرى والبلدات ستكون الخيارات بين السيئ والأسوأ.
لذلك أحن إلى جبهة تلمّ كل من سيضع يده بيدي وكتفه إلى كتفي وقلبه مع قلبي وعقله وعقلي، ونمضي معًا إلى ذلك الحقل والمحجر ونصرخ "بالطول بالعرض..."!
فأين من عيني جبهة إليها آوي؟!
0 comments:
إرسال تعليق