مهما حاولت وسائل الإعلام المحلية نفخ أحداث الاحتجاج التي أسميت، من باب الأماني، بيوم الغضب، تبقى الحقيقة مقلقة والنتيجة واحدة: مشاركة الجماهير كانت خجولة، لا ترقى لضجيج ما أطلق من دعوات واستنجاد، وتبقى علامة الاستفهام حول دور وأهمّية ما يسمى بقيادات الجماهير العربية تكبر من حدث إلى حدث.
بعض المئات من المواطنين العرب شاركوا في مظاهرات احتجاجية على ما سمي بقانون "برافر" الذي يستهدف اقتلاع البدو من النقب. بعض المشاركين اعتقلوا، ضربوا وما زالت التداعيات تخبو. بعض الشرطة كانوا من العرب وهكذا كان بعض حرس الحدود وكذلك المحققون والسجانون والقضاة.
في الواقع، ما جرى كان انعكاسًا لحالة القصور التي تعتري ما صار يسمى مجازًا "قيادة الجماهير العربية" وتجسيدًا لادّعاء غير واقعي هو أقرب للافتراء منه إلى الحقيقة. هل يتوقع هؤلاء القادة أن الجماهير غافلة، وأنها في البداية والنهاية قطعان تساق متى عنّ لهؤلاء أن يحتموا بها، وكأنّهم على قلب واحد، ويسعون من أجل هدف ومصلحة واحدة.
من الجائز أن تعتمد هذه القيادات على قصر ذاكرة الجماهير العريضة، ولكنّها تخطئ حينما تستمر بممارساتها "القيادية" المفرغة من عناصر القيادة الأوّلية؛ وحدة في الهدف والمرجعية والمصلحة.
قبل عامين أغرقنا بعض القادة بعشقهم لتركيا أردوغان. بعضهم أعادنا إلى أحضان خلافة سيعمُّ خيرُها على بلادنا، وغيرهم حاول أن يقنعنا بأنّ "الطيّب" خليفة جمال عبد الناصر، فهنيئًا للقومية العربية واستبشروا يا عرب. اليوم ما زال بعضهم يؤمن أن الطيّب سند وضمانة لمستقبل وعندهم ما زال هو العنوان والمآل، ولكن آخرين تراجعوا وطفقوا يصِمون "الطيّب" بالخيانة والعمالة. مسطرة هذا تقيس موقف الطيّب ممّا يجري في مصر، أمّا مسطرة الخائبين فترصد موقفه ممّا يجري في سوريا.
بالمقابل نمي إلى مسامعنا، ما حاولت قيادة حزب "التجمع" أن تخفيه أو على الأقل ألا تعلنه، لقد قام وفد من حزب "التجمع" بزيارة عمل لقطر، وربما لتقديم التهاني لأميرها الجديد. مواقف حزب "التجمع" تتغيّر وكأنها على رمال متحركة. في أيام "مرمرة" هلّلوا لتركيا ولدورها ولزعاماتها، أمّا اليوم فمن الصعب تحديد موقفهم إزاء هذا النظام، فهو يقف مع قطر في قضايا ترسيم المنطقة وما يحاك لمستقبلها من مكائد، وهو كذلك مرتبط برباطات متينة مع حلف الناتو وإسرائيل. لقد اختلط حابلهم بنابل الواقع الساطع المرير.
"الحركة الإسلامية" تدعم مواقف أردوغان، لا من أجل عيون فلسطين ولا كرمى لمصلحة الجماهير العربية في إسرائيل، مبرّرات مواقفها وتبريرات ذلك لا تعتمد معايير وطنية فلسطينية ولا تقتصر على مفاهيم تخص قضايا الجماهير المصيرية.
أمّا قادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة فيصفّقون لبوتين وقادة روسيا، الشيوعيون منهم ما زالوا يعيشون على رائحة الاتحاد السوفياتي، لم يفيقوا بعد من تلك السقطة. المسطرة لديهم هي عداؤهم التاريخي المستمر لأمريكا، فحيثما تكون أمريكا يكونون في الضد (لقد خانتهم تلك المسطرة في بعض المحطّات التاريخية)، بعضهم يعزز عشقه لبوتين وزمرته بموقف هؤلاء ممّا يجري على الساحة السورية، ويرفضون أن يروا ما كان موقف هذه الروسيا في ليبيا مثلًا أو في العراق وغيرها، وكذلك يصمّون آذانهم عندما يصرح وزير خارجية روسيا قبل أيام وهو يستقبل وزيرة القضاء في إسرائيل تسيبي ليفني، فعلى مسامع العالم أفهم لافروف الفلسطينيين أن روسيا لن تدعم خطوات أحادية الجانب من قبل الفلسطينيين، وأن روسيا لن تعترف بدولة فلسطين في مجلس الأمن إذا تهرّب الفلسطينيون من استحقاق عودتهم للمفاوضات. كما لم ينزعج رفاقنا عندما طمأن الرفيق لافروف مستمعيه بأن لروسيا علاقات جيّدة مع أصدقائها الأمريكيين لا سيما مع وزير الخارجية كيري.
ما يشاهده المواطن العادي هو عبارة عن "شربيكة" كبيرة. مسرح يعجّ بحركات لممثلين بعضهم مقنع بقناعات عجيبة غريبة، بعضهم مغرق "بالميك أب"، بعضهم قتلت ملامحه الأصلية عشرات من عمليّات التجميل. كلّهم يتحركون بهيستيريا، يصرخون وللعجب على مسرح معتم.
نحن في ظلمة. قادة بيننا يصفّقون لقطر ولأميرها، وهنا يلعنون إسرائيل وقوانينها، كيف لنا أن نصدّق هؤلاء؟ قادة بيننا يصفقون "للطيّب" وهو في حضن أمريكا وإسرائيل ويلعنون مرسي، فكيف يجوز ذلك؟ بعضهم يصفّقون لمرسي وللطيب ويلعنون إسرائيل والناتو فكيف لنا أن نصدق هؤلاء؟ قادة لنا تصفق للافروف لأنّه يحب اليوم الأسد ويحمي عرينه في سوريا، لا يريدوننا أن نقرأ ونسمع ونشاهد من يكون البوتين هذا وزمرته، فكيف لنا أن نصدّقكم؟
يهيبون بالمواطنين ليذودوا عن وطن وأرض، ولا يستشعرون أن القوم قد سئمهم، فمن يقفز من حضن أمير خائب عابث لن يستجلب معه إلّا بعضًا من صدّيقين وكثيرًا من السحيجة والمستفيدين، ومن يحتمي بعباءة متأسلم منتفع حليف لسلاطين العصر لن يستجمع إلّا حفنة من مؤمنين بررة ومئات ممن يقتاتون من على طاولات السلاطين. والذي ما زال نائمًا في حضن امبراطورية درست لن يقوى إلا على بعض من الثوّار المغاوير وأكثر على جنود من ذلك الحرس القديم.
هنا أوّلًا وهنا آخرًا. هكذا كتبت وسأستمر. عودوا إلى هنا فستجدون جماهيرَ لن تقبل بالذلّ والمهانة، لن يفيدكم "طيب" ولا "مرسي" أو "أسد"، ألا ترون ما المصيبة والقضية: المقاوم عربي، السجين عربي، القاضي عربي، المحقق عربي، المدّعي عربي، حارس الحدود المعتدي عربي، الناطق باسم الخارجية والداخلية عربي وحارس السجن عربي..
أين إسرائيل من كل هذا؟ ستكون هناك على الأرض في النقب. هكذا عندما تفقد الجماهير بوصلتها، فمتى سيفيق شيخ المينا؟
0 comments:
إرسال تعليق