....... من الواضح جداً ان حدة الخلافات والمشاكل الاجتماعية في مدينة القدس تتفاقم وتستعر بشكل جنوني وبطريقة فيها خروج سافر عن كل الأعراف والتقاليد وقيم وأخلاق ومعتقدات شعبنا،وواضح أيضاً أن الاحتلال له بصماته الواضحة في هذا الجانب والمجال،ولكن الاحتلال هذا هدفه ودوره،تخريب وفكفكة وتدمير النسيج المجتمعي المقدسي،حتى يسهل السيطرة عليه وحرفه عن الهدف الأساس في النضال والمقاومة والصمود والتحرر من نير الاحتلال،وهو لهذا الهدف وهذه الغاية يعمل على إغراقه في خلافات ومشاكل عشائرية وجهوية وطائفية،ونشر كل أشكال وأنواع الآفات والأمراض الاجتماعية في داخله من مخدرات وجنس وتشويه لقيمه وثقافته وفقدان للهوية والانتماء، مشاكل تجد لها تربة خصبة تغذيها وتمدها بالاستمرارية والتكاثر والصعود من قبل فئات وجماعات لها ارتباطاتها وعلاقاتها مع الاحتلال،أو كنتيجة لتخلفها وجهلها وعدم وعيها،أو ضيق افقها،فهي تقدم خدمة مجانية بوعي أو دون وعي وتقوم بهذا الدور عن الاحتلال،فهي تحرض على الجهوية والقبلية والعشائرية وثقافة القطيع والعصبوية بكل إشكالها،في ظل غياب للوعي والثقافة والتربية الوطنية وتراجع دور الأحزاب والفصائل في إيجاد حلول ناجحة وخلاقة لهذه الكارثة المحدقة بشعبنا،والتي يبدو أن الاحتلال اختبر صحتها ونتائجها في الداخل الفلسطيني وبالتحديد في المدن المختلطة،حيث نلحظ تصاعداً غير مسبوق في العنف الحاصد للأرواح بشكل جنوني،وارتفاع في وتائر الجريمة والأمراض الاجتماعية بمختلف الأشكال والمسميات مخدرات،خلافات ومشاكل اجتماعية تتحول إلى احتراب عشائري وقبلي أشبه بحروب الجاهلية،وتفريغ داخلي للعنف على شكل معارك عائلية طاحنة تسودها ثقافة القطيع،يغيب فيها دور المثقفين والمتعلمين ويغيب فيها العقل والفكر والانتماء الوطني لصالح تسييد العواطف والمشاعر وسلطة العائلة والقبيلة والعشيرة والأبوية التي لا يحق لأي فرد من الحمولة أو العشيرة أو القبيلة الخروج عليها،وإلا فإنه سيكون عرضة للحرمان وتخلي العائلة عنه.
نحن في القدس وفلسطين عموماً دخلنا مرحلة الاستنقاع،أي أعلى مراحل الانهيار والتفكك رغم ما يبدو عليه المجتمع في الظاهر من تماسك وتعاضد،فالسطح لا يعكس ما يجري في العمق ولا يعكس حقيقته،وما الأحداث المؤسفة التي جرت في مدينة القدس مؤخراً وراح ضحيتها فتى في مقتبل العمر واصابة عدد آخر من المواطنين لأسباب لا تستوجب لا القتل ولا الجرح ولا التدمير،بل تستوجب تحكيم صوت العقل والضمير ووحدة الهدف والمصير،وما استتبع تلك الأحداث بما يسمى ب"فورة" الدم وما رافقها من عدم ضبط للأعصاب نتيجة بشاعة الجريمة،وما نتج عن ذلك من عمليات حرق لبيوت وغيرها،وحالة التجييش العائلي والعشائري وبما يعرض وحدة النسيج المجتمعي للخطر،هذا النسيج الذي يتعرض لضغط شديد من أجل تفتيته .
المأساة هنا ليست في كون الاحتلال هو الجذر والأساس في هذه المشاكل وهذا العنف الذي أصبح يستشري بين أبناء شعبنا،بل لا بد لنا من الاعتراف بوجود مشكلة حقيقية في هذا الجانب،فنحن في الإطار النظري والشعاري والخطابي،نتحدث عن قيم المحبة والتسامح والأصالة ووحدة الانتماء والهدف والمصير... الخ من تلك اللازمة الطويلة من الإنشاء والسجع والطباق،ولكن في إطار الممارسة والتطبيق على أرض الواقع نجد هناك بوناً شاسعاً بين ما نتحدث به وبين ما نترجمه على الأرض،وهذا يوجب علينا أن نبحث بشكل جاد عن مكامن الخلل ولماذا أي خلاف بسيط أو شخصي يتطور الى حروب واحتراب يعيدنا الى عصور الجاهلية؟؟.
علينا أن نعترف بوجود مشكلة حتى نستطيع أن نعالج المشكلة،علينا مغادرة خانة دفن الرؤوس في الرمال وكل أجسامنا مكشوفة،نحن جميعا بارعون ونحفظ كل ما تقوله الكتب السماوي من دعوة للمحبة والتسامح وعدم قتل النفس بغير ذنب ودم المسلم على المسلم حرام ...الخ،وكذلك نردد شعارات الانتماء الوطني فوق أي انتماء آخر والرجل المناسب في المكان المناسب ومجتمع مدني تصان وتكفل فيه الحريات والكرامات... والخطوط الحمراء التي لا يحق لأي منا تجاوزها مثل الايغال في الدم الفلسطيني والخيانة الوطنية وانتهاك حرمات دور العبادة والمشافي ودور العلم ... والمساواة أمام القانون والمساءلة والمحاسبة ومحاربة الفساد ...الخ.
ولكن في إطار الترجمة والتطبيق تتبخر كل هذه الأشياء،ونجد الحلول الترقيعية و"الطبطبة" تبدأ من الحلول العشائرية حتى تصل الى قمة الهرم السياسي والقضائي والأمني.
قد يقول البعض بأن الاحتلال لم يتح لنا أي فرصة من أجل إقامة مجتمع مدني وسلطة حقيقة تمكنها من محاربة تلك المشاكل واقتلاع تلك الآفات،واذا سلمنا بأن ذلك واحد من الأسباب،لكن نجد بالمقابل في المناطق التي تدار من قبل سلطة غير سلطة الاحتلال الأمور على الأرض ليست مختلفة،إن لم يكن على مستوى أسوء في بعض الجوانب والمجالات،بل الكثير من الناس يرجع انسحاب وعودة الناس الى العشائرية والقبلية والطائفية،لكون هذه السلطات عملت على تعزيز واحتضان العشائرية والقبلية وخلقت مليشيات تمارس سطوتها على الناس وتتعدى على كراماتهم وحقوقهم وحرياتهم،وأيضاً الحديث عن الإخاء والحوار والمجالس الإسلامية والمسيحية هي شكل من أشكال "البرسيتيج" والمظاهر الخادعة،والمسألة ليست في إطار ما يجري الحديث عنه لوسائل الإعلام والجمهور،بل ما يمارس على أرض الواقع وفي الغرف المغلقة والمجالس الخاصة.
أولا علينا أن نعترف بأننا ما زلنا بعيدين جداً عن المجتمع المدني،وان لدينا حالة عميقة من الجهل والتخلف ويكمن في أعماقنا عصبية قبلية ،لم يجري التخلص منها،بل في أي مشكلة مهما كانت بسيطه تطل هذه العصبية برأسها عالياً وتنتشر انتشار النار في الهشيم.
لم تنجح الحركة الوطنية والقوى والأحزاب حتى الأكثر منها يسارية وفكر تنويري وتقدمي في اجتثاث الجانب العصبوي والقبلي لصالح الانتماءات الوطنية،وكذلك جاءت السلطة الفلسطينية وحكام إمارة غزة لكي يعززوا من هذه الرؤية وهذا النهج وعلى نحو أكثر سوء في الإمارة.
لم يستطع لا الكتاب ولا المثقفين ولا المتعلمين من خلق رؤيا جديدة تكرس ثقافة جديدة وتقدم مصلحة الوطن والقضية على مصلحة العشيرة والسلطة أو المصالح الخاصة،بل وجدنا هذه الفئات صدى للسلطة والعشائر،أي لا تمارس دور جدي وحقيقي في إطار عملية تغير الوضع والواقع.
المؤسسات والمراجع الدينية ودور العلم تتحمل قسطاً كبيراً في هذا الجانب،فالمدرسة ومؤسسات العبادة،لها دور هام جدا في التربية والتوعية والتثقيف،وفي الإطار العملي نجد أن هناك قصورا كبيرا في هذا الجانب،ومن الهام جداً تخصيص حصة وأنشطة خاصة لمثل هذه الجوانب.
الحرية تحتاج الى وعي والوعي يحتاج إلى ممارسة وعمل،وهنا نحن أمام ثقافة مشوهة ووعي غائب،وعي مشوه واحتلال يعمل على احتلال هذا الوعي،احتلال يريد أن ينفي وجودنا كشعب،يريد التخلص منا بأي شكل من الأشكال،هذه هدفه ودوره وبرنامجه،ولكن الأخطر من ذلك أن نساهم نحن وبأيدنا في تطبيق برنامجه وتحقيق هدفه .
0 comments:
إرسال تعليق