الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ردد أكثر من مرة وفي أكثر من محفل أو مناسبة أن "ليس من علاقة شخصية تجمعه بالرئيس السوري بشار الأسد، وأنه التقاه بالكاد مرة أو اثنتين، وأن روسيا لا تريد التدخل في من يحكم سورية، وهو أمر يقرره السوريون بأنفسهم".
كلام جميل لو توقف بوتين عنده واتخذ الإجراءات الفعلية على تأكيد ذلك، بوقف الدعم السياسي للنظام السوري والامتناع عن استعمال حق النقض (الفيتو) في عرقلة قرارات مجلس الأمن التي تدعو لوقف شلالات الدم التي تنزف من أجساد السوريين منذ ما يقرب من سنة ونصف، وأوقف شحنات الأسلحة التي يزود بها آلة الحرب الجهنمية التي يملكها النظام السوري، والتوقف عن مده بأحدث ما أنتجته الترسانة العسكرية الروسية من أسلحة فتاكة، والتي يستخدمها النظام، ليس في مواجهة الصهاينة لتحرير الجولان، بل في جبال الزاوية وحمص ودرعا والريف الشمالي لحلب ودير الزور والرستن والقصير واللاذقية والحفة وجبل الأكراد وريف دمشق والقامشلي، دون أن تستثني آلة القتل والتدمير أي بقعة من التراب السوري مهما صغرت ومهما بعدت، مرتكباً أفظع الجرائم والمجازر بحق أطفال ونساء وشيوخ وشباب سورية، حتى بات عدد الشهداء أرقام تزيد يوماً بعد يوم لتتضارب مستوايتها بين 15 إلى 20 ألف شهيد، إضافة إلى ما يزيد على عشرين ألف مفقود، واعتقال أكثر من مئة ألف، ونزوح نحو مليون ونصف داخل المدن السورية، وتهجير نحو 150 ألف خارج الحدود إلى البلدان المجاورة تركيا والأردن ولبنان وكردستان العراق.
أقول ليت بوتين توقف عند ما قاله واتخذ الإجراءات الكفيلة بوقف هذا المسلسل الدموي الرعيب، لكنت أنا وكل السوريين بكل أطيافهم ونسيجهم الاجتماعي نقف باحترام أمامه تقديراً للقيم الإنسانية والأخلاقية التي عمل بها!!
ولكن هذا البوتين خيب آمال السوريين في روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي الذي كان لسنوات طويلة يناصر قضايا الأمة العربية، ويدعم حركات التحرر العربية، ويقف إلى جانبهم عند كل اعتداء كانت تتعرض له. فقد علق هذا البوتين على ما قاله، بأن السوريين هم من يقررون مستقبل بلادهم واختيار حكامه، فقال: إنه "يرى أن البديل عن السلطة الحالية في سورية سيكون الإسلام المتشدد، وهو ما لا تريده روسيا".
عجيب أمر هذا البوتين كيف يناقض نفسه في لحظة واحدة.. يقول أن من حق السوريين وحدهم اختيار حكامهم وفي نفس الوقت يقول ان البديل هو الإسلام المتشدد!!
أليس ما يقوله هذا البوتين كمن يلعب في....!!
لا أعرف من نصب هذا البوتين ليكون وصياً على سورية وعلى الشعب السوري سليل حضارة تضرب جذورها في عمق التاريخ لأكثر من سبة آلاف عام، ليقرر ثم يحلل ثم يتخذ الإجراءات التي يراها مناسبة لسورية وشعب سورية وحكام سورية، وبوتين هو واحد من بقايا فلول المخابرات السوفييتية (كي جي بي) السيئة السمعة والسلوك، التي تلوثت أياديها بدماء الملايين من شعوب الاتحاد السوفييتي السابق، والذي تمكن بخبثه ومكره من الإمساك بحكم روسيا كرئيس للدولة مرتين في عامي 2000 (نفس السنة التي نصب فيها بشار الأسد نفسه حاكماً على سورية وريثاً لأبيه) و2004. وترك منصب رئيس الدولة في عام 2008 عندما انتهت فترة رئاسته الثانية المتتالية. وسلم بوتين زمام الحكم إلى دميتري ميدفيديف في عام 2008 وشغل منصب رئاسة الحكومة، وكان الرئيس الفعلي لروسيا من وراء الكواليس، ثم عاد إلى الكرملين في أيار 2012 لينصب قيصراً على روسيا مجدداً لست سنوات قد تمدد ست سنوات أخرى.
بوتين الذي لاقى اختياره كرئيس جديد لروسيا تذمراً واسعاً من الشعب الروسي واحتجاجات متصاعدة تعد الأكبر من نوعها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تعبيراً عن استياء شعبي واضح من سياسة "حزب روسيا الموحدة" الذي يتزعمه هذا البوتين، حيث استمرت محاولات الكتاب والخبراء في تسليط الضوء على ما يجري في روسيا، وفهم التفاعلات الحاصلة هناك، لاسيما في ظل اتساع رقعة الحركات الاحتجاجية في العالم ونجاحها في الإطاحة بأنظمة كانت تعد راسخة في الوطن العربي.
تقوّم الخبيرة الفرنسية في الشؤون الروسية "ماري مانديرا" الرئيس بوتين بقولها:
"إن النخب الحاكمة على مر العصور في روسيا تمكنت من التأقلم حسب الظروف وتغيير جلدها مع المستجدات للبقاء على قيد الحياة. وهذا بالضبط ما أدركه بوتين منذ منصبه الأول كمساعد لعمدة مدينة "سانت بيترسبورج" وحتى تقلده الرئاسة". وتضيف الكاتبة أن روسيا التي تبدو للعالم الخارجي دولة قوية وراسخة تمتد عبر التاريخ وتحمل إرثاً مهماً من القوة والجبروت ترجع إلى أيام ستالين الرهيبة، تظل في الحقيقة ضعيفة".
وتبرز الكاتبة ملامح وتجليات هذا الضعف بقولها: "فجميع المؤسسات التقليدية التي تفخر بها روسيا مثل الكرملين ومجلس الدوما والمجالس المنتخبة الأخرى ليست سوى هياكل جوفاء ترتهن لشبكة المصالح الأكثر تجذراً. وقد أدرك بوتين هذه الحقيقة مبكراً فسعى لاستغلالها لتسهيل حكمه من خلال ربط علاقات متشابكة مع تلك المصالح للالتفاف على المؤسسات الطبيعية التي حاول تهميشها، فأغدق المناصب والصفقات الحكومية على المقربين والموالين من رجال الأعمال، وتمكن من نسج شبكة قائمة على الريع السياسي والاقتصادي مكنته لاحقاً من بسط السيطرة على الإعلام والتحكم في صناعة النفط الرئيسية بالبلاد".
والأكثر من ذلك، تقول الكاتبة الفرنسية: "يتجلى ضعف الدولة الروسية ليس فقط في سهولة الالتفاف على مؤسساتها كما فعل بوتين الطامح لولايتين أخريين قد توصلانه إلى 2024، بل أيضاً من خلال تجريف المجتمع المدني والمراهنة على سنوات الفوضى والاضطراب التي اجتاحت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لتخويف الشعب".
وتضيف قائلة: "إذا كان بوتين قد سعى إلى تكريس ضعف الدولة الروسية والاستفادة منه، فهو يعاني اليوم من تداعيات سياسته وفشله في تقوية مؤسسات الدولة بعد تقلده السلطة، ولعلَّ الاحتجاج الشعبي المتنامي ضد استمراره في الحكم دليل على ارتباك النظام في موسكو وعجزه عن السيطرة، فبعد سنوات من تجريف الأحزاب المنافسة، وانبطاح الجهاز البيروقراطي أمام ساكن الكرملين، وغياب طبقة مستقلة من رجال الأعمال تدافع عن الفكرة الليبرالية والتعددية السياسية، وتحتكم لمؤسسات الدولة، بات الشعب دون متنفس للتعبير عن الاستياء عدا الخروج للتظاهر، كما أن وسائل الاتصال الحديثة أعطت للشباب الروسي القدرة على رص الصفوف وتعبئة الأنصار بعيداً عن محاولات الرقابة والتضييق الذي سعى بوتين لفرضها. وفي غياب سلطة أفقية تعتمد على مؤسسات الدولة المنتشرة جغرافياً والحاضرة في وعي السكان، تبقى سلطة بوتين ونظام السيطرة العمودي عاجزاً عن إقناع الشعب بوجاهة سياسات الدولة".
وتختم الكاتبة تحليلها قائلة: "تأتي الأزمة الاقتصادية الراهنة لتفاقم الوضع بالنسبة للنظام في موسكو، ففي حين كان بوتين يتمتع بهامش كبير من المناورة قبل 2008 بسبب صعود أسعار النفط وقدرته على الإنفاق وشراء الذمم، والتوجه خارج روسيا لتوسيع نفوذ بلاده، يجد نفسه اليوم مغلول اليد بالنظر إلى الأزمة وانخفاض أسعار المحروقات وتراجع قدرته على التحكم والهيمنة، ولأن مرحلة بوتين ليست سوى قوس يُفتح ثم يغلق في تاريخ روسيا، فالخاسر الأكبر- حسب الكاتبة - هو الدولة الروسية نفسها".
تشابه بين نظامين استبداديين فاسدين، وقديماً قيل: "إن الطيور على أشكالها تقع". من هنا يمكننا أن نتلمس القواسم المشتركة بين نظام دمشق ونظام موسكو، وهذه القواسم المشتركة تدفع الحكومة الروسية إلى التمسك بنظام الأسد مهما أدعت بأن موقفها مبني على عدم التدخل في شؤون الدول وأن على الشعوب وحدها تقع مسؤولية تغيير الحكام، وأن من حق الشعوب وحدها اختيار حكامها.
دعاوي موسكو ما هي إلا فقاعات تريد بها تبرئة نفسها مما يقترفه النظام السوري من جرائم بحق شعبه، وفي حقيقة الأمر هي تقف إلى جانب النظام السوري حتى النخاع، وبالتالي فهي شريكة له في كل ما يقترفه نظام دمشق السادي المتوحش من جرائم، وعلى العالم أن يفهم هذه الحقيقة وعليه أن يتحرك سريعاً اليوم قبل الغد، في موقف أخلاقي وإنساني شجاع تجاه شعب يذبح من الوريد إلى الوريد في واضحة النهار من قبل نظام سادي قاتل، بأساليب وحشية وبهيمية لم يسبقه إليها أحد، يعف القلم عن كتابتها واللسان عن ذكرها وقد شاهد العالم فظاعتها على الشاشات الفضائية وتناقلتها كل وسائل الإعلام ووثقتها منظمات حقوق الإنسان الدولية، وصنفتها في مرتبة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية!!
0 comments:
إرسال تعليق