مقال اعتزالي الحياة الأدبية (المبدعون غرباء عن هذا العالم)/ الأب يوسف الجزراوي

حين أقف أمام لوحة شهيرة في متحف فان غوغ في مدينة امستردام الرائعة بهولندا، او أحضر حفلاً موسيقيًا في دار اوبرا بمدينة هارلم الهولندية أو اتأمل تحفة رائعة في متحف اللوفر في باريس أو أشاهد مسرحية على خشبة أحد المسارح أو عندما أجلس امام مكتبي وأقرأ عملاً أدبيًا أو أطالع كتابًا مُفيدًا سلسًا غنيًا بالمعاني لأحد الكُتّاب العظام، قد يفسد عليَّ بعض مُتعتي بما أقرا أو أسمع أو أشاهد لما تكبده ( مُبدع العمل) الذي أبدعه من فكر وإنفعالات وسهر الليل ووقت وعزلة وعناء لكي يفرز لي وللجميع هذا (الرحيق) البديع الذي استمتع به بلا عناء.
يسيل لُعابي إزاء عمل مُبدع وتسيل دموعي أحيانًا حينما أعرف شيئًا عن سيرة حياة المُبدع الذي إنتج لنا هذا العمل الذي امتعني ويستمتع به الكثيرون ويستفيدون منه عبرًا لحياتهم، ولم يستمتع هو غالبًا بحياته ولا بأوقاته....بل عاش مُتألمًا، مُنعزلاً، مُرهقًا يعمل الصباح ويسهر الليل، ويشكو من عدم تقدير الناس وفهمهم له، وإنتقادهم لإبداعه في حياته ....وينهي حياته بنهاية مأساوية. هكذا هو حال الكثير من المُبدعين، فصدقوني وحده المُبدع هو غريب عن هذا العالم ولا يشعر بالإنتماء إليه، فمن يعرف ويدرك أكثر يحزن ويعاني أكثر! فللمعرفة ضريبتها!
هذا هو حال المُبدعين والمُفكرين والعارفين الخلاّقين الذين أضافوا شيئًا للوجود وبصموا بصمتهم في جبين الحياة وصنعوا التاريخ!
واليوم وانا في الثالثة والثلاثين من عمري وبعد جملة من الالقاب التي حصدتها وقبيل اعتزالي الحياة الادبية اقول لقرائي: لم يعد لديّ ما اقدمه ككاتب واديب، عليّ أن أتوقف وأقول في نفسي دومًا يا ليت يعود الزمان بي إلى الوراء لكنتُ أعدت إصدار جميع مؤلفاتي التي صدرت والتي يصل عددها إلى 24 مولفًا، بالرغم من أنني في الثالثة والثلاثين من عمري، والبعض منها طبع أكثر من طبعة وفي أكثر من بلد ونفذت مُعظم الطبعات، لكنني لأ زلت أحس أنني لو فعلت هذا سوف أستطيع أن أُعبر بشكل أدق عما أردت قوله للقراء، ولتمكنتُ أيضًا من أن أُعبر عن نفسي بشكل أفضل، وأجعل نفسي أكثر وضوحًا وأكثر فهمًا لقرائي الأحباء. هذا هو الهاجس الذي يراودني ويُطاردني دائمًا.
أشعر بنفسي وكأنني أحاول سكب أفكاري وخبراتي الحياتية من زجاجة عطر كبيرة جدًا في زجاجة عطر صغيرة للغاية، فيسقط في داخلها أقل القليل منها، ويسيل مُعظمها على جوانبها ويتبدد في العدم.
المُبدع سواء كان مُفكرًا أو مُصلحًا أو كاتبًا مُتميزًا أو أديبًا أو فنانًا، يحس دائمًا بأن أفكاره وخبراته الحياتية تتلاطم في داخله، وتبحث عن نفق تخرج منه إلى النور، فإذا أفرزها، تعذب دائمًا بإحساسه بأن ما أراد أن يقوله ويوصله للقراء أقل بكثير مما استطاع. وقد يكون العذاب أشد حين لا يجد من يتبنى نشر أفكاره ونتاجاته، أو عندما يُساء فهم أفكاره من قبل بعض الجهلة أو أنصاف المُثقفين، أو عندما ينتابه الإحساس بإنه لم ينل ما يستحقه من التقدير، أو بسبب دوامة القلق: كيف ستكون ردة فعل القراء على ما ينتج؟ أو مُعاناته بسبب غيرة أعداء النجاح والتميز والإبداع الذين هم أشبه بالجنود المرتزقة الذين يطلقون الرصاص دون أن يكون لهة حجة أو قضية سوى الغيرة والحسد والخوف من أن يُسحب البساط من تحت أقدامهم!
ألم أقل في بداية الكلام إنه عذاب وترقب مُستمر، فيه إستهلاك للصحة والبهجة والسعادة، إنه عذاب المعرفة والخلق والإبداع، هكذا تكون ولادة الأفكار القيصرية عند المُبدعين. وعلى هذا الشكل تكون مُعاناتهم.
صدقوني إنّ النجاح التام يعني إنتهاء "مأمورية" الإنسان في الحياة، تمامًا كذكر العنكبوت، الذي تنتهي مأموريته في الحياة حين ينتهي من تلقيح الأنثى.
كثيرون أبدعوا لكهنم تعذبوا، وليس هُناك من مُبدع لم يعرف الألم، فكما أن الحبّ هو الصليب كذلك هو الإبداع، فكل إبداع ولادة، وكل ولادة مخاض، ولكلِّ مخاض عذابه الخاص ومُعاناته، فإذا كانت المرأة تتعذب بالولادة بضع مرات في حياتها، فإن الأديب والكاتب والمُفكر والفنان يتعذبون كل يوم إلى نهاية العمر، لأنهم يعرفون كثيرًا ونظرتهم للحياة مُختلفة وأكثر عمقًا وحسًا ودفئًا؛ نظرة تجعلهم يبدعون أكثر، وولادة الأفكار القيصرية مُستمرة عندهم! ويستمرون بالشقاء بسبب أفكارهم ونظرتهم للحياة وأطروحاتهم الجريئة، فنظرتنا للحياة تنبع من عمق إكتشافنا لها، واستيعاب ما هو جوهري فيها، وليس كل البشر قد أختبروا الحياة واكتشفوا قيمتها! ويشقى المُبدع حينما يرى ويدرك معاني الحياة بشكل مُختلف عن الآخرين أو قد يشقى عندما يشعر بأنه غريب ومُختلف عن الآخرين.
ويشقى المُبدع أيضًا حينما يشعر بالعجز عن الإستمرار في الإبداع، أو انه لم يعد لديه ما يقوله وما يكتبه أو يبدعه للأخرين، أو لديه ما يقوله، لكنه لم يعد قادرًا على أن يعبر عن نفسه بنفس الإبداع السابق. هذا هو حال المُبدعين! لقد عانوا في حياتهم، لكنهم بحكم هذه المُعاناة عاشوا ولادات جديدة من خلال ما تركوا لنا من اعمال ونتاجات خالدة فخلدتهم وأدخلتهم التاريخ من أوسع أبوابه. لقد تهمشوا في حياتهم وكرموا ما بعد مماتهم، لقد ذاع صيتهم وانتبه العالم لهم ولإنتاجاتهم بعد رحيلهم لدار البقاء، المهم أنهم ابدعوا وتركوا اثرًا بعدهم، وكم جميل أن يكون للإنسان أثر خالد في الحياة. فيا ليتك، قارئي العزيز، تكون من المُبدعين الخلاّقين، لأن من لا يُبدع وينتج ويثمر ويستثمر حياته لخيره وخير الآخرين لا يستحق الخلود. أملي أن تكون أنت وأنا والناس أجمعين من الخالدين.

انتظروا كتاب اعتزال الحياة الادبية ( كتاب العمر) أفكار وتأملات من تُراب