أربعة أعوام ولايزال الانقسام الفلسطيني مستمراً، ولم يقدم اتفاق المصالحة الفلسطينية متغيراً ملموساً على الأرض، فعندما همت الأطراف الفلسطينية المتصالحة إلى تنفيذ اتفاق المصالحة اصطدمت على الفور بأول لغم "من رئيس الحكومة المقبل" وبكلمة (لا) بعد أن استبشرت جماهيرنا الفلسطينية والعربية خيراً بإنهاء الانقسام المرير. إن كلمة السر في أي اتفاق يفترض أن تكون (نعم)، فهي كلمة سحرية تبعث الآمل وتنزع سلاح الطرف الآخر، فابحثوا عن الفرص التي تستطيع أن تلفظوا فيها كلمة (نعم) لأنها تزيل التوتر والقلق وتقلل الفجوة وتوثق الصلة، أما كلمة (لا) تكون عقبة كؤود إذا كانت رفضاً لموضوع الحوار، بالتالي تنزع الثقة والاحترام.
إن الشعب الفلسطيني عانى بما فيه الكفاية وهو بحاجة ماسة إلى كنفٍ رحيم وإلى رعايةٍ فائقة وإلى شاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بضعفهم ونقصهم .. في حاجة لقلب كبير ينبض بالعطاء.. يحمل همومهم السياسية والاجتماعية والإنسانية والوطنية والحياتية و.. يجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء والمسؤولية، التي يجب أن يتحملها الأطراف وأعضاء اللجان المفاوضة. فالمحاور يحمل أمانة ويقتاد الحلم والمصير الوطني، ولابد أن يتصف بضبط النفس والتأني عند الغضب، حتى لا تصبح المعاني في سلوكه خلقاً وعادة وتعاملاً، فتضيع الفرص ويحصل سوء التفاهم وتعكر العلاقات ويفوت الوقت نتيجة سوء إدارة الحوار أو عدم تفهم أو وضوح الرسالة والغرض من ورائها.
وفي هذا الشأن قدم القرآن الكريم نماذجاً رائعة في فن إدارة الحوار والتفاوض الناجح المثمر، على سبيل المثال لا الحصر :" قصة إبراهيم عليه السلام حين هم أن يذبح ابنه، ونوح مع قومه، وقصة سيدنا موسى عليه السلام حين طلب من ربه أن يسمح له برؤيته، وقصة عيسى وأمه، والحوار في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، وقارون مع قومه، وداود مع الخصمين، وشعيب مع قومه، وموسى والعبد الصالح، والحوار بين بلقيس وقومها مع سليمان عليه السلام، والحوار بين السادة والأتباع الذين أضلوهم يوم القيامة. وهناك أمثلة عديدة تحث على الحوار والتفاوض واتفاقات ومواثيق التزم بها العالم والشعوب ولاتزال قائمة إلى يومنا هذا. كانوا بالأمس أعداء فأصبحوا أصدقاء، رغم الاختلاف في الدين والجنس والمذهب والثقافة. إن في حياتنا اليومية ومعاناة الشعب الفلسطيني دروساً بليغة ينبغي تدبرها لتكون حافزاً ورابطاً متينا للمضي قدماً في مشروع المصالحة الفلسطينية والالتزام بما اتفق عليه وفق المصلحة الفلسطينية، أما التقليل من شأن الآخرين وتحديهم لا يجلب إلا البغض والفشل، والخاسر الوحيد شعبنا وقضيتنا ومشروعنا الوطني.
لذلك هناك معايير لإنجاح الحوار الوطني الفلسطيني يجب أن يتحلى بها اللجان المتحاورة وعجباً لهم فهمنا ومصيرنا واحد فاتحدوا، والمعايير هي:
- ضرورة اختيار العبارة المناسبة الهينة والابتعاد عن الشعارات والخطابات المسيئة التي تبعث على التشكيك أو تحرض على ثقافة العنف، وعدم الخنوع للضغوط وفرض الرأي يأخذ أهمية أكثر عندما يكون ذلك الطرف له نفوذ وحاد الطبع يصعب التعامل معه، فالطريقة المهذبة والودية المتفهمة يمكن أن تكسب ود الأطراف باللين والإطراء وتفلح في إقناعهم بالطريقة الدبلوماسية.
- يجب أن يبتعد الأطراف عن أسلوب التحدي والتصلب لأن كسب القلوب أهم من كسب المواقف، قد تبدأ المناقشة والحوار وروح العداوة تسيطر على الأطراف فإذا دفع الآخر بالحسنى انقلبت العداوة إلى مودة ورحمة والبغض إلى محبة، ودفع الإساءة بالإحسان ليس بالأمر الهين يمكن أي إنسان تحقيقه لذا يفضل أن تبدءوا من خلال النقطة المتفق عليها حتى ولو كانت نسبة الخلاف بينك وبين الطرف الآخر 99% ونسبة الاتفاق 1%.
- وحذار أن تتجاهل مشاعر الطرف الآخر، ووجهة نظره، فوراء هجومه غالباً ما يمكن غضه، ووراء تحجره غالباً ما يختفي خوفه، فمهما كانت آراؤك منطقية فإنك لن تجد منه آذاناً صاغية وإلا إذا استطعت أن تتغلب على مشاعره، وهو قد يكون على حق، ولديه ضوابطه التي يجب أن نحترمها.
- على المحاور إذا أراد تحقيق مطالبه أن يعرف أين تؤكل الكتف، وكيف تفتح مغاليق القلوب بأن يستعمل في كلماته وخطاباته ما يثير رغبة محدثه، ويشده إلى تقبل الحق ويدفعه إلى الالتزام به وذلك بنداءات استعطافية وخطابات تشويقية مقنعة لها إيحاءاتها المؤثرة على المشاعر والوجدانية المصبوغة بدماء الشهداء والجرحى والأسرى، كحق وطني مشترك، ودغدغتها المبالغة على القلوب على أن يلتزم المحاور حدود الاعتدال والاتزان والمسؤولية في كل ما يطرحه من استعطافات ونداءات بلا مغالاة ولا شطط ولا مداهنة ولا مراءاة وما أباح له الشرع في إطار التقنية والمداراة ما استطاع أن يأسر به قلب خصمه وأن يصل إلى ما يريد لتحقيق الوفاق.
- واحرصوا في الحوار تجنب عرض نقط الاختلاف لأنها تعيق الإقناع وتوقف الحوار من أوله ويحكم عليه بالفشل وينحى به منحى التحدي فتضغن النفوس وتكون نصرة الذات لا بلوغ الحق هي الهم الأوحد لذلك يجب عرض البديهيات والمسلمات والدأب على تأكيدها، والثني على جهود الوسطاء.
- إن لكل جدل حوار وليس لكل حوار جدلاً .. ولأن المحاور الناجح طالب حق، لايتعصب لحزب ولا لفئة معينة ولا لرأي معين أو لشخص، فإذا حاورت أو ناقشت أو ناظرت، فلا تتعصب ودر مع الحق حيث دار، واحرصوا عند حواركم المصالح أن تكونوا المثل الأعلى في الملاطفة والمجاملة، فالأسلوب المهذب يمكن كسب ثقة الآخرين وبالمودة وتجنبوا التجريح والمجادلة العقيمة وفرض الرأي .. لتصلوا إلى نتيجة ايجابية مفيدة مشرفة ترضي الجميع. فالخلافات لا تحلها إلا روح المحبة وسبيل التأدب والملاطفة.
- إن من أقبح التعصب أن يكون هم المحاور إسقاط صاحبه وتتبع هفواته والتحايل عليه رغبة في تحقيره فمن كان ذلك شأنه فليهنأ ببغض الناس. أما إذا بدأ الحديث على مواضيع ذات خلاف أو نزاع أو وجهات نظر متعارضة كما هو الخلاف على تولي شخصية رئيس الحكومة المقبل فإن ذلك قد ينسف الحوار من أوله أو على الأقل ينفر القلوب والنوايا ويكدر الخواطر ويجعل المتحاورين في مهام الروح والجدال والاتهام لإبراز أن الطرف الآخر هو المعطل للاتفاق، لذلك يجب تقديم نقاط الاتفاق التي يمكن تلبيتها فوراً مثل المسلمات والبديهيات وإبداء نوايا حسن النية لكسب الثقة وتبني جسراً من التفاهم تساعد في إطالة أمد الحوار ويحسن في عملية التنفيذ والآليات المقبولة الناجحة، وتعطي دفعاً للبنود التالية محل الخلاف.
- وحذار أن يقوم المتحاورين بإنهاء أخطائهم من خلال ممارسة رد الفعل ورد الفعل الذي يستفز الفعل المضاد أو الغلظة على شعبهم أو على حساب المشروع الوطني الفلسطيني، كوسيلة ضغط وبحكم سلبي أو عقوبة عاجلة غير مدروسة لذلك يجب أن يتكرر الحوار حتى يجني ثماره بحب ورفق وحنان وتعقل ويحدث أثره في تغيير السلوك إلى الأفضل، لأن شعبنا يكره الشدة والقسوة والظلم والإحباط. فاحرصوا على استنهاض همم الناس وتحريك عزائمهم واستثارة وجداناهم واحرصوا على الحوار الهادئ البناء الذي يدخل شغاف القلوب وترققها وتعمق المشاعر وترطب الفكر والرضا.
إن المتأمل في القرآن الكريم سيجده مليئاً بالنداءات الاستعطافية والرسول محمد صلى الله وعليه وسلم تحدث عن الأمل وطوله وكثرته وأن الإنسان ينتهي من هذه الحياة وآماله لا تزال ورغباته كالجبال ولكن الموت محيط به من حيث لايدري فلا يشعر إلا وقد نزل به فقطع عليه آماله وأفسد أحواله. فما أحرى أن نهمل خلافنا ونمهله شيئاً من الوقت حتى لا نقع في شرك كلمة لا ومن ثم أين المخرج؟ لذا الصبر ولا تتعجلوا في إنهاء الحوار وتراشق الاتهام وابدؤوا دائماً حديثكم بنقاط الاتفاق ولا يعيبك طول الحديث، فهونوا نقاط الاختلاف مقارنة بنقاط الاتفاق تجد محاورك يقبله دون أن يشعر فتفوزوا بحسم الموقف.
كاتب وباحث
0 comments:
إرسال تعليق