قد يكون الأمر مستغرب ومستنكر، وخيالٌ لا يصدق، فهو عنوانٌ قد يصلح لروايةٍ أو عملٍ سينمائي، ولكنه لا يكون حقيقةً بحال، وإنما وهمٌ وخيال، فهل يوجد اليوم في الكون من يهدد أمن مصر، ويعرض سلامتها للخطر، ويهز عرش استقرارها ويبدد فرحة أبنائها بالنصر الذي حققته ثورة شبابها، فمصر اليوم بثورتها دولةٌ عظيمة، وقوةٌ لا تهتزُ أركانها، ولا تتزعزع جذورها، ولا ينهار بناؤها، ولا تقوى دولٌ على تهديد أمنها، وتعريض استقرارها للخطر، بل إنها دولةٌ مهابة الجانب، يُخشى جيشها، ويُحسب ألف حسابٍ لها إن قررت المواجهة، وأعلنت التحدي والتصدي، ونحن الفلسطينيين أكثر شعوب العرب اعتزازاً واعترافاً بمصر القوية، مصر التي صنعت تاريخ أمتنا ومجد حضارتنا، وقادت شعوبنا نحو النصر على كل الذين تطاولوا علينا، واحتلوا أرضنا، وجاسوا خلال ديارنا، وحاولوا سرقة خيراتنا ومقدراتنا، فكان جيش مصر دوماً لهم بالمرصاد، يتعقبهم ويلاحقهم، يمزق جمعهم ويشتت جيشهم، ويبدد أحلامهم، ويوقظهم من سكراتهم، ويعيد إلى الأمة العربية والإسلامية مجدها الذي كان، وعزها الذي علا وساد.
كانت عيونها مسمرة على جهاز التلفزيون، تتابع بشغفٍ وقلق أخبار ثورة شباب مصر، وتتنقل من محطةٍ إلى أخرى، وقلبها يضطرب خوفاً على مصر وشعبها، وقد حز في نفسها ما رأته من دماءٍ مصرية تسفك في شوارع مصر، وشهداء يسقطون على أرضها المباركة، ولكنها كانت ترفع رأسها عالياً تفاخر بشعب مصر الذي ملأ الشوارع والميادين، وأقسم أن يثور على الظلم، وألا يسكت على الحيف، وأن تكون له كلمة الثورة على كل مفردات الذل والفساد، وأن يعيد رسم صورة مصر البهية، وأن يقدمها للعالم كما عرفها، عظيمةً في حضارتها، ناصعةً في تاريخها، عزيزةً في كرامتها، إنسانية في تعاملها، ترفض الذل والتبعية والانقياد والهوان، فدعت الله بقلبٍ صادقٍ خاشع، أن يحفظ مصر، وأن يبارك في ثورة شبابها، وأن يحقق آمالهم ويلبي طموحاتهم، وألا يضيع دماءهم الزكية، وجهودهم الصادقة المخلصة، وحفظت كلمات أغنية محمد منير وعشقتها، إزاي ترضيلي حبيبتي، ورددت معه "مش لاقي في حبك دافع، ولا صدق في عشقك شافع، إزاي أنا رافع رأسك وأنت بتحني في راسي إزاي"، فقد أحبت مصر وعشقتها، ورفعت رأسها بها وبشعبها وبثورتها العظيمة.
كان أملها أن تعود إلى أهلها في غزة مرةً أخرى بعد غياب سنواتٍ ست، هي جزءٌ من غيابٍ قسري تجاوز العشرين عاماً، حرمت فيها من أهلها وأحبتها، وغادرت ذكرياتها وأحلام طفولتها، وبقايا ذاكرتها الملونة بالدم والمعاناة والألم، إذ أجبرتها ممارسات الاحتلال على الغياب، لتلحق بزوجها الذي أبعدته سلطات العدو الإسرائيلي من سجونها إلى لبنان، ولكن أحداً لا ينسى وطنه، ولا يفرط بأهله، ولا يقطع وشائجه بشعبه، ولا يشطب من ذاكرته أجمل أيام عمره، فعزمت على زيارة غزة لتصل ما انقطع، ولتعيد لحم ما قد أراد له العدو أن ينكسر، فكرت كثيراً قبل أن تحزم حقائبها، وتحمل جواز سفرها وتغادر بيتها، وتصطحب معها بناتها الثلاثة، هل ستكون الطريق إلى غزة سالكة هذه المرة، ألن تجد من يعرقل عودتها، ويعقد رحلتها، ويجرعها الهوان، هي لم تنس بعد ذكريات الزيارات الأليمة الثلاثة التي سبقت، إذ لم تستطع السنوات الست الماضية أن تنسيها معاملة عناصر الأمن المركزي المصري ورجال المخابرات العامة لها، وكيف أنهم عزلوها عن أطفالها، واقتادوها بعيداً عنهم إلى القبو المظلم اللعين الذي يعرفه كل الفلسطينيين، واحتجزوها فيه لأيامٍ دون مراعاةٍ لحرمتها وإنسانيتها وأمومتها، لم تكن يومها وحيدةً في القبو، ولم تكن وحدها من الفلسطينيين التي تجرعت ألوان الذل والهوان والعذاب والمعاناة من قبل عناصر الأمن المركزي، فقد شاركها فلسطينيون كثيرون، وعانى مثلها مئات الفلسطينيات وآلاف الفلسطينيين، ولكنها كانت مختلفة عن غيرها، فقد فصلوها عن أطفالها، ومنعوها من الاجتماع بهم، وإن كانوا في نهاية المطاف قد قبلوا أن يجمعوهم معها في الحجز القذر نفسه، ليتشربوا معها مفردات الذل والهوان التي بالغ فيها عناصر الأمن المركزي، وكانوا فيها كراماً، بذاءةً في الألفاظ ، وسوءاً في الكلمات، وقسوة في المعاملة، وإهانة في الخطاب.
هي لم تنسَ شيئاً من هذه المعاملة المهينة التي تعرضت لها وأخرياتٍ كثيراتٍ لمراتٍ ثلاثة في مطار القاهرة الدولي وعلى معبر رفح الحدودي، ولكنها ظنت أن مصر الثورة غير مصر مبارك، وأن مفاهيم مصر العروبة والإسلام قد استعادت بهاءها ونظارتها، وأن نخوة مصر القديمة قد عادت، وأنها لن تقبل باهانة امرأة، ولن ترضى على نفسها أن تعذب امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، لا هم لها سوى أن تعود إلى وطنها، وأن ترى أهلها، وأن تجتمع بأحبتها، وكذبت كل هواجسها، واستعاذت بالله من شرور الشيطان الرجيم الذي حاول أن يشككها، وأن يعيد إلى ذاكرتها ما تعرضت له من سوء المعاملة، والمعاناة المهولة التي لاقتها في السنوات الماضية في المطار وفي الطريق الصحراوي اللاهب وفي معبر رفح البئيس، كذبت الشيطان واستعاذت بالله منه ولعنته، ونفضت عن نفسها هواجسه وكوابيسه، واستعادت رباطة جأشها، ورددت باستغرابٍ وحيرة كلمات محمد منير "عمالة تزيدي في حيرتي، وما أنتيش حاسة بطيبتي .. إزاي، إزاي أنا رافع رأسك وأنت بتحني في راسي .. إزاي ".
ولكن الشيطان كان هذه المرة أصدق من أحلامها، فأيقظها من غفوتها، وأعادها إلى الماضي الأليم، لتجد نفسها في مطار القاهرة، تفصل من جديد عن بناتها، وتعزل بعيداً عنهم في ذات القبو، ولكنها كانت هذه المرة وحيدة، فلا فلسطينية أخرى تشاركها ظلمة القبو، وإن كان هناك عشرات الفلسطينيين الذين طال انتظارهم في القبو في انتظار الترحيل إلى غزة، ونشط ضباط الأمن المركزي ببزتهم الجديدة في استظهار ما حفظه جهاز الكمبيوتر لديهم، يسألونها لماذا أنت فلسطينية، ولماذا أنت غزاوية، ولماذا أنت زوجاً لمبعدٍ وناشطٍ فلسطيني، لماذا قبلت بقدرك أن تكوني فلسطينية، بل أن تكوني غزاوية، سكتت ونزلت دموعها من عيونها حرى عزيزة، تخاطب مصر "إزاي سيباني في ضعفي، طب ليش مش واقفة في صفي، وأنا عشت حياتي بحالها علشان ملمحش في عينك خوف، وفي بحرك ولا في برك إزاي أحميلك ظهرك، وأنا ظهري في آخر الليل دايماً بيبات محني ومكشوف"، تلك كانت زوجتي المتهمة بأنها فلسطينية غزاويةٌ، زوجة لفلسطيني مبعدٍ ناشطٍ متمسكٍ بحقوق شعبه وأهله.
0 comments:
إرسال تعليق