رائحة الدم بدأت تهب. خامس أيام العيد؛ أول ضحية للدوائر المفتوحة، مقتل مواطن في تبادل إطلاق النار في قنا.. بين مرشحين من الحزب الوطني متنافسين"مع بعضهما".
لست مهموماً بنتائج الانتخابات، فهي مزورة.. مزروة، كما كانت غالبيتها الساحقة طوال 90 عاماً، الفارق أنه كان هناك دائماً نظام أو دولة، أياً توصيفهما، يحتكر العنف والتزوير، الآن العشب الجاف في كل مكان ويتخلل كل الأنسجة، مع شرارات جاهزة للإشعال.. وسفك الدماء.
أول أيام العيد؛ حرق عشرة منازل لمسيحيي أبو تشت.. لأن قبطي "صاحب" مسلمة، علاقة مثل مئات آلاف العلاقات التي شهدتها كل بقاع وفئات مصر. ثاني أيام الأضحى؛ مقتل سيدة وإصابة نجلها و5 آخرين فى معركة بالأسلحة الآلية بين قريتين في الفشن ببنى سويف.. والشرارة مغازلة فتاة، مثل ملايين المعاكسات التي نشهدها في كل "حتة". ثالث أيام العيد؛ تبادلت 3 قبائل بدوية فى قرية بالوظة بشمال سيناء الأعيرة النارية فأصيب أحد المتصارعين وخُطف ثلاثة منهم.. ولم تتدخل الشرطة، وفي ذات اليوم؛ معركة بالأسلحة بين عناصر فلسطينية من فتح وقبيلة الفواخرية بسيناء تتسبب فى إغلاق الطريق الدولى ساعتين. والشرارات الجاهزة في سيناء تتمحور حول "تغييب" الدولة عن بقعة ذات أهمية إستيراتيجة قصوى للوطن. رابع أيام الأضحى؛ صدامات بين الشرطة وإخوان الإسكندرية، أطلقت عليهم القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي.. فردوا بالمطاوي والسنج، والحصيلة عشرات المصابين من الطرفين.
السادس من الشهر الجاري؛ احتج سفير نظامنا الحاكم في أمريكا على افتتاحية جريدة واشنطن بوست: "مصر مبارك تتحول إلي القمع الخارج علي القانون". يبدو أن الجريدة لا تتابع تفاقم حالة مصر جيداً، فنحن انحدرنا من القمع خارج القانون الذي كانت تحتكره السلطة.. إلى "فوضى القمع خارج القانون.. لمن استطاع إليه سبيلاً"، وتوصيفه الدقيق.. بلطجة.
الفوضى هي نتيجة طبيعية لتفكك البنية البوليسية والسياسية للنظام نفسه. مؤشرات التفكك تتراكم منذ بداية العشرية الأولى من القرن الـ21. في الانتخابات الماضية، وعقب فوز لواء الشرطة السابق (السيد جبر) مدير أمن شركات بهجت على منافسه (محمد كمال مرعي) النائب السابق، شهدت قرى مركز المحلة أبرز مظاهر فوضى القمع. أعمال شغب وقتل مواشي و"بشر" وحرق أراضِ زراعية ومنازل، وفرض كل طرف حظر التجوال على المناطق الواقعة تحت سيطرته، وفشلت الشرطة في دخولها ليومين كاملين.
"كانت أعنف انتخابات شهدتها مصر في تاريخها، ضحايا ومصابين.. بلطجة ورشوة"، يرصد الملتقى السنوي الـ17 لدراسات ديمقراطية الأقطار العربية، 18 أغسطس 2007 في جامعة أوكسفورد، الذي ضُمت أبحاثه في كتاب "الانتخابات الديمقراطية وواقع الانتخابات بالأقطار العربية"، أبريل 2009 عن مركز دراسات الوحدة العربية. أبريل 2010 قدرت ندوة "العنف الانتخابي.. أسبابه واتجاهاته ووسائل تخفيفه" في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية والمستقبلية، ضحايا البلطجة والعنف الانتخابي بمصر في ربع قرن بـ124 قتيلاً، منهم 14 في انتخابات 2005.
منذ بداية السبعينيات صاحبت "حالات" العنف العملية الانتخابية، لكنها ظلت مجرد "حالات فردية". مع أول انتخابات العشرية الأولى، فتحت داخلية النظام أبواب "حجوز" الشرطة ليخرج بلطجية، رجال ونساء، احتجزتهم لمواجهة منافسي الحزب الحاكم، وللزميلة ساره علاء الديب مراسلة الأشوسيتدبرس تجربة موجعة في دائرة بولاق أبوالعلا.
لساره تجربة موجعة تالية في ذروة الحراك عام 2005، ما عرف بـ"الأربعاء الأسود"، يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور.. وهتك الاعراض. كان التدشين الأبجح للبلطجة، بعدها أصبحت سلوكاً "عادياً" للنظام، امتد منذ انتخابات 2005.. وحتى الوقفات السلمية المطالبة بتحقيق عادل في مقتل خالد سعيد، ثم.. قانون المتنافسين من أتباع النظام في الدوائر المفتوحة.. وخارجها.
وزّع النظام "القمع خارج القانون" على أتباعه، فاتحاً الباب لفوضى بلطجة ترعب أي "نظام" لديه ذرة التزام بالتماسك الاجتماعي، هو لا يهتم بـ "روائح دم" متوقعة مع استعدادت "حربية" أصبحت أقرب للعلم العام. في مقاله (نقطة نظام) في الوفد، 3 اكتوبر الماضي، يقرأ الزميل عادل صبري دراسة ميدانية وبحثية للواء رفعت عبد الحميد خبير العلوم الجنائية استغرقت ثلاثة شهور، لاستشراف دور البلطجة في الانتخابات القادمة، انتهت إلى أن "البلطجة لم تعد هواية يمارسها خارجون على القانون في موسم الانتخابات، بل صناعة يحترفها الساعون لمقاعد البرلمان". تؤكد الدراسة: "كل من يعمل في هذه المهنة، له ملف جنائي رسمي، وبعضهم على صلة وثيقة بالضباط كمرشدين، وآخرين يعملون بعيداً عن عيون الشرطة، لكنهم يظلون على تماس معها". يكشف صبري: يقدم البلطجية خدماتهم أولاً لمرشحي الحزب الوطني، مع تخفيضات تصل على حد التطوع للوزراء وكبار المسئولين، فهم يقدمون السبت.. لأن الأحد بالنسبة إليهم قادم لا محالة". ورغم "التطوع"، تقدر دراسة لمركز الجبهة للدراسات الاقتصادية والسياسية أن 19 مليار جنيه ستنفق خلال انتخابات 2010 على شراء الأصوات والبلطجة.
"نتفة" من تفاصيل صناعة البلطجة والدوائر المحيطة بها قرأناها الخميس 7 أكتوبر 2010 في موقع اليوم السابع: عائلات تشتري عشرات قطع السلاح، تخزين مرشح بنجع حمادى السلاح وتجنيده بلطجية لإدارة حملته ضد شقيقه المرشح المنافس. تضاعف سعر الآلى الروسى إلى 18 ألفاً.. والصينى 12 ألفاً.. والعوزى 9 آلاف والرشاش المضاد للطائرات بـ30 ألفا.. الأخير يُحمل على سيارة نصف نقل، أو يُثبت فى مكان ما.. كمدفع. وبعد ان كان السلاح فى أيادى أبناء العائلات والقبائل، أصبح مع البلطجية بديلا للمرشحين عن "عزوة" العائلات الكبيرة.
وأياً كان حجم البلطجة ودرجة تفشيها.. فقد "كانت" تحت سيطرة أي من ضباط الشرطة، تحت إشراف جهة "مركزية". الآن لمصلحة من سيُدير الضباط المعركة، لفريق صفوت الشريف.. أم لفريق الراحل كمال الشاذلي.. أم لفريق أحمد عز؟! ومن سيصدر التعليمات العُليا بـ"الانحياز".. الوزير أم المحافظ أم لجنة السياسات، وهل سيلتزم الضباط، مع تفكك النظام نفسه، بالتعليمات.. أم سيتصرف كل منهم وفق حساباته.. أم سيعتزل بعضهم الفتنة.. ويترك المتنافسين لفوضى البلطجة. ميليشيات الوطنى المتصارعة تستعد لمشهد التفكك الأخير.
مؤشرات روائح الدم تخيم على الشارع.. نتمنى ألا تزكم الأنوف وتثقل القلب.
0 comments:
إرسال تعليق