العالم يومًا بعد يوم في تطور دائم، ولكنهُ من ناحية أخرى محكوم بإنسانهِ أن يعيش في ظروف لا تحقق كرامتهِ كإنسان، فانتهاكات حقوقهِ ما زالتْ تحصل في مناطق مختلفة من العالم، واغلبها تمّر بدون عقاب. وأيضًا في ظل ما يعيشهُ من ويلات الحروب التي تتسّم بالقهر والاستغلال والإهانة للإنسانية، والصراعات الدولية والاجتماعية المسلحة والحّادة التي كلفتْ البشرية ملايين الأرواح البريئة، أو الأصح أجيالاً بعد أجيال تُجبّل عقولها على الحروب والإرهاب، وتولدُ على أصوات وكوارث ونكباتْ ما تخلفهُ الحروب. في قمة الألفية المُنعقدة في الأمم المتحدة في أيلول عام 2000 ولمدة (3 أيام)، اعترفت الدول في هذه القمة بحقوق الإنسان كأساس لا يمكن استثناؤه لإيجاد عالم يسودهُ السلام والعدل والمحبة، مؤكدين مسؤوليتهم المشتركة في دعم حقوق الإنسان على المستوى العالمي والمحافظة على نصوصها من التهميش والضياع، وخلق مستقبل مُشترك لجميع شعوب الأرض، وأيضاً احترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي. ووفقاً للمبادئ المُعلنة في ميثاق الأمم المتحدة الذي صدر بمدينة سان فرانسيسكو في 26/ حزيران/1945، يُشكل الإقرار بما لجميع الشعوب من حق تقرير مصيره، ومن كـرامة أصلية منبثقةٌ من الإنسان نفسهُ وحقوق ثابتة ومتساوية وراسخة، أساس الحرية والعدل والمساواة والسلام في العالم. لتحقيق سُبل جديدة تُحدد فيها كيف تكون شعوبًا مُوحدةٌ ومُتماسكة حتى وإن كانت مُنقسمة في العادات والتقاليد والمعتقدات والمصالح. وأيضا لتحقيق المثل الأسمّى والمشترك الذي ينبغي أن تبلغهُ كافة الشعوب، والمُتمثل في إن يكون جميع البشر أحراراً ومُتساوين في الكرامة والحقوق وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948. وبتساوي الرجال والنساء في الحقوق والحريات ولا تفريق بين صغير وكبير، وقد نص الميثاق على الكثير من القيم والمعايير المُشتركة ولكنها بقيتْ حبرٌ على الورق! كما إن حقوق الإنسان ما زالت بعيداً عن كل ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!مبدأ تقرير المصير: عرف بعض فقهاء القانون الدولي حق تقرير المصير بأنهُ:" حق أي شعب في أن يختار شكل الحكم الذي يرغب العيش في ظلهِ والسيادة التي يريد الانتماء إليها". باعتبار أن السيادة ركن أساسي من أركان تقرير المصير. وإذا كان مبدأ تقرير المصير قد أستُهل في عام 1526م، لكنهُ لم يجد تطبيقهُ الفعلي ألا في بيان الاستقلال الأمريكي المُعلن في 4/تموز/1776، وبعدها أقرت به الثورة الفرنسية في 1789م، كما ضمنهُ الرئيس الأمريكي ولسن Wilson في نقاطه (14) التي أعلنها بعد الحرب العالمية الأولى. وقد لعب هذا المبدأ دوراً مُهمًا في تاريخ القانون الدولي. كما أحتل مكانة مهمة في معاهدات الصلح التي عقدت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 1919، لكنهُ لم يكتسب القاعدة القانونية الإلزامية في القانون الدولي بدليل التقرير الذي قدمتهُ لجنة الفقهاء بتاريخ 5/ أيلول/1920، بشأن جزر الآند، حيث تضمن:" إقرار هذا المبدأ في عدّة معاهدات دولية لا يكفي لاعتباره من قواعد القانون الدولي الوضعي". ألا إن تغييراً في النظام الدولي قد حدث بخصوصه، فقد نص عليه ميثاق الأطلسي المعقود بين الحكومتين الأمريكية والانكليزية (روزفلت وتشرشل) في 14/ آب/1941، وانضم إليه بعد ذلك الاتحاد السوفيتي في أيلول عام 1941. وقد نصت المادة الثانية من الميثاق على إن:" الحكومتين لا ترغبان في أي تعديل إقليمي لا يتفق مع الرغبة التي يعربُ عنها السكان المعنيون بحرية تامة". كما نصت المادة الثالثة منه:" باحترام حق جميع الشعوب في اختيار شكل الحكومة التي تريد أن تعيش في ظلها". ثم جرى تأكيد هذا المبدأ في تصريح الأمم المتحدة الصادر في 1/كانون الثاني/1942، وتصريح يالتا الصادر في 11/شباط/1945.
مبدأ تقرير المصير في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة: لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بحرية وإرادة واستقلال وفقاً لمْا تريدهُ، بعيداً عن أية قوة أو تدخل أجنبي. وبعيداً عن أية أعمال بربرية وخزتْ بآثارها الضمير الإنساني، لبزوّغ فجر جديد يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة والتحرر من الخوف والاضطهاد، والدفع بالرّقي الاجتماعي قدمًا، ولتحقيق مستوى أرفع للحياة في جوُ من الحرية الإنسانية والتسامح والأخوة والعيش المشترك، كأسمّى ما ترّنو إليه أيةُ نفس بشرية. في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 421 الصادر في 4/ كانون الأول/1950 طلبت الجمعية العامة من لجنة حقوق الإنسان أن تضع توصيات حول الطرق والوسائل التي تضمن حق تقرير المصير للشعوب، كما نصت في قرارها رقم 545 الصادر في 5/ شباط/1952، على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها. ثم أصدرتْ قرارها رقم 637 في 16/كانون الثاني/1952 الذي جعلت بمقتضاهُ حق الشعوب في تقرير مصيرها شرطاً ضروريًا للتمتع بالحقوق الأساسية جميعها، وأنهُ يتوجب على كل عضو في الأمم المتحدة الاحترام والمحافظة على حق تقرير المصير للأمم الأخـرى. أذن لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، وهي بمقتضى هذا الحق حرةٌ في أن تحدد مركزها السياسي وتحقق نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مُسترشدة بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة المادة الأولى المُتمثلة بمقاصد الأمم المتحدة، و(المادة 55) اللتان تؤكدان على حق الشعوب في تقرير مصيرها وعلى ضرورة قيام علاقات سلمّية وودّية بين الأمم. كما تسترشد بأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخان في 16/ كانون الأول/1966 واللذان أعدتهما لجنة حقوق الإنسان، فقد ذكر كلا العهدين حق تقرير المصير بنص موحد في مادتهِ الأولى بأنهُ:" لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها، وهي بمُقتضى هذا الحق حرةٌ في تقرير مركزها السياسي وحرةٌ في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". وأيضا أحكام إعلان وبرنامج عمل فينا (23/157. A/CONF) اللذين اعتمدهما المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في حزيران 1993، وبالتحديد الفقرتين (2،3) من الجزء الأول المتعلقتين بحق الشعوب في تقرير المصير وخصوصًا الشعوب التي تخضع للاحتلال الأجنبي. وقد تأيد مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بصورة ثابتة في القرارات العديدة التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة. نذكر منها قرارها المرقم 1514 (د- 15) في الفقرة الثانية من إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، المؤرخ في 14/ كانون الأول/1960. وهو القرار المعروف بتصفية الاستعمار، ووضع حدّ عاجل وغير مشروط للاستعمار في جميع إشكالهِ ومظاهـره من دون أي تمييز. ولقد كان لهذا القرار أهمية خاصة، لأنهُ اتخذ أساسًا استندتْ عليه القرارات اللاحقة الصادرة عن الأمم المتحدة جميعها الخاصة بتقرير المصير. لقد حقق تقرير المصير لعدد من الشعوب استقلالها السياسي، غير إن قلة من الدول الاستعمارية استمرت في نهج سيطرتها على ثروات وموارد الاقتصادية للبلد المُستعمر، ومن ثم اتضح إن إزالة هيمنة الاستعمار سياسيًا لابدّ وأن يتبعهُ إزالة هيمنتهِ على الموارد الطبيعية والاقتصادية، ومن هنا برزتْ فكرة السيادة على الموارد الطبيعية وحق تقرير المصير الاقتصادي. فأثيرتْ أمام لجنة حقوق الإنسان فكرة السيادة الاقتصادية وحق الدول في تأميم ثرواتها من يد المُستعمر، وأنهُ لا جدوّى من حرية تقرير مصير الشعوب ما لمْ تمتلك حرية التصرف في ثرواتها الاقتصادية والثقافية، فأصدرتْ الجمعية العامة قرارها رقم 626 في 21/كانون الأول/1952 بهذا الخصوص. ثم بعد ذلك اقترحت لجنة حقوق الإنسان عام 1954 على الجمعية العامة إنشاء لجنة خاصة لدراسة حق الشعوب في السيادة على ثرواتها ومواردها الطبيعية. وحقها في التصرف الحُر فيها وفقاً لمصالحها القومية، ودونما إخلال بأية التزامات مُنبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي، كما لا يجوز في أية حال من الأحوال حرمان أي شعب من أسباب عيشهِ الخاصة (الفقرة 2 من المادة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966). وقد ذكر في قـرار الجمعية العامة رقم 1515 المؤرخ في 15/كانون الأول/1960، الذي أوصت فيهِ باحترام الحق المُطلق لكل دولة في التصرف بثرواتها ومواردها الطبيعية. وهذا ما أكدهُ أيضا القرار رقم 1803 (د- 17) الذي أصدرتهُ الجمعية العامة في 14/ كانون الأول/1962، والمُعنون (السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية) وأعلنت في فقرتهِ الأولى:" يتوجب أن تتم مُمارسة حق الشعوب والأمم في السيادة الدائمة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، وفقاً لمصلحة تنميتها القومية ورفاه شعب الدولة المعنية". كما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها المرقم 2625 الصادر في 24/تشرين الأول/1970، مُتضمناً تصريحًا خاصًا بالعلاقات الودّية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وعلى أساس مبدأي المساواة وحق الشعوب والأمم في تقرير المصير اللذان هما من مبادئ القانون الدولي الخاص، جاء فيه:" بموجب مبدأ التسوية في الحقوق وتقرير المصير للشعوب المُعلنين في ميثاق الأمم المتحدة، لكل الشعوب الحق في أن تقرر دون تدخل أجنبي، مركزها السياسي وأن تسعّى لتأمين نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى كل دولة واجب احترام هذا الحق وفق نصوص الميثاق". والقرار الذي أصدرته في 15/ كانون الأول/1970، الذي أكدتْ فيهِ على حق الشعوب في تقرير مصيرها وضرورة الإسراع في منح الاستقلال للشعوب والبلاد المُستعمرة وعلى" شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية المُعترف بحقها في تقرير المصير لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها". ونلاحظ في هذا القرار أن الجمعية لم تكتف فقط بإقرار المصير ومطالبتهِ للشعوب، بل أكدتْ أيضا على شرعية النضال والكفاح والاستقلال للشعوب الخاضعة لسيطرة الاستعمار بأية وسيلة للوصول إلى حقهم، كما يحصل الآن في فلسطين التي تناضل ضد المستعمر. كما ورّد هذا التأكيد في القـرار المهم رقم 2955 الصادر عن الجمعية العامة في 12/كانون الأول/1972. وفي قرارها رقم 3070 الصادر في 30/ تشرين الثاني/ 1973 طلبت الجمعية العامة من جميع الدول الأعضاء الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها وتقديم الدعم المادي والمعنوي وكافة أنواع المساعدات للشعوب التي تناضل من أجل هذا الهدف. منذ ذلك الحين، والجمعية العامة للأمم المتحدة تؤكد على هذه المبادئ في جميع قراراتها المُعنونة تحت "الإعلان العالمي لحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة والاحترام العالمي لحقوق الإنسان". وفي غضون ذلك وقعت في 1 / آب/1975 ،(33) دولة أوربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في هلسنكي، الاتفاقية النهائية التي أسفر عنها مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا. وقد تضمن القسم الأول منها إعلاناً عن المبادئ التي ينبغي أن توجه علاقات الدول المشتركة، فدعي إلى الأخذ بــ (10) مبادئ توجيهية وصفتْ بأنها:" غاية في الأهمية وأن الواجب يقضي تطبيقها بلا تحفظ". وقد نص المبدأ الثامن منها على حق تقرير المصير. يتضح مما سبق إن النص على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بحريتها في العديد من القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، أصبحت تعني أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المُعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقاً وعلى الدول التزامات كل دولة تجاه نفسها وتجاه دولة أخرى، فهو مقرر لجميع شعوب العالم دون استثناء أو تمييز بسبب العرق أو اللون أو الثروة أو الأصل القومي.
0 comments:
إرسال تعليق