...... حكومة الاحتلال الإسرائيلي تجند كل طاقاتها وإمكانياتها وعلاقاتها ووسائل ضغطها محلياً وإقليمياً ودولياً،من اجل منع إدانتها واتخاذ قرارات أو عقوبات دولية ضدها،على خلفية ما ترتكبه من جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني وتجاوزاتها وخرقها وخروجها على القانون والمواثيق الدولية،وهي لا تكتفي بالاعتماد على المظلة السياسية الأمريكية- الأوروبية الغربية المتوفرة والحامية لها دوماً في المؤسسات الدولية فيما يتعلق بتلك الجرائم والخروقات والتجاوزات،وفي أغلب المسائل والقضايا والقرارات المرفوعة فلسطينياً وعربياَ ضد إسرائيل على تلك الخلفية،وتحديداً في مجلس الأمن الدولي،يكون حق النقض"الفيتو" الأمريكي أو الأوروبي الغربي حاضراً،وهذا ما حدث مؤخراً عندما اتخذت أمريكا حق النقض "الفيتو" ضد اعتبار الاستيطان واستمراره في القدس والضفة الغربية غير شرعي.
وتراجع القاضي غولدستون عن مضمون تقريره في مقال نشرته صحيفة"واشنطن بوست" يوم السبت 2/4/2011 ،ذلك التقرير الذي لأول مرة في تاريخ هيئة الأمم المتحدة،يدين إسرائيل ويتهمها بارتكاب جرائم حرب خلال عدوانها على قطاع غزة بين 27/ كانون أول2008 و 18 كانون ثاني/ 2009،يؤشر الى حجم الضغوط الهائلة التي تعرض لها القاضي غولدستون من قبل الحكومة الإسرائيلية واللوبي الصهيوني العالمي والحكومة الأمريكية،وحجم الانزعاج والتخوف من هذا التقرير الأممي،وتلك الضغوطات والتهديدات لم تكتفي بالتجريح والتشويه والطعن والتهديد بالطرد من الوظيفة للقاضي غولدستون،والاتهام بالانحياز للشعب الفلسطيني،بل وصلت حد التهديد بالقتل،وحالة القاضي غولدستون ليست بالفريدة او النادرة،فجميع الكتاب او الصحفيين أو الموظفين الرسميين الأمريكان والأوروبيين الذي انتقدوا إسرائيل وجرائمها أو شككوا في حقيقة"الهولوكست" خسروا وظائفهم وتعرض البعض منهم للسجن،وأيضاً وصلت الأمور حد ان مارست إسرائيل ضغوطاً على العديد من الدول الأوروبية،كما حدث في اسبانيا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية،من أجل تغيير قوانينها وأنظمتها القضائية،بحيث لا يصبح من حق تلك المحاكم والقضاة إصدار مذكرات توقيف واعتقال،بحق أي من المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين منهم،والتي تدور حولهم شبهات أو أدلة بارتكاب فظائع وجرائم حرب.
وتراجع غولدستون عن مضمون التقرير الأممي،سبقه العديد من التراجعات الأخرى،فالجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/11/1975 أصدرت قراراً حمل رقم 3379 ،اعتبر الصهيونية (شكلاً من أشكال العنصرية والتميز العنصري)وهذا القرار شكل ضربة موجعة لإسرائيل وللحركة الصهيونية لأنه ينسف الأساس التاريخي والديني والأخلاقي للكيان الصهيوني من حيث اعتبار العقيدة التي يقوم عليها هذا الكيان شكلاً من أشكال العنصرية،وقد بقيت إسرائيل والولايات المتحدة ومعهما العديد من دول أوروبا الغربية يمارسون ضغوطهم،من أجل تغير هذا القرار،حتى سنحت لهم تلك الفرصة بعد حرب الخليج وانهيار المعسكر الاشتراكي ووصول النظام الرسمي العربي إلى حالة غير مسبوقة من الانحطاط والتردي،ولكي تحقق إسرائيل ومعها أمريكا أول نصر تاريخي لهما في هيئة الأمم المتحدة،حيث اتخذت جمعية الأمم المتحدة قراراً من جملة واحدة،قررت فيه نبذ الجمعية الحكم الوارد في قرارها رقم 3379 ،ونجاح إسرائيل وأمريكا في استصدار مثل هذا القرار،بالإضافة للعوامل السابقة،فإن الموقف المربك والملتبس للسلطة الفلسطينية ،وقبولها بالهبوط عن الموقف المبدئي الحقوقي والقانوني إلى المساومة السياسية،كان من العوامل الهامة في تمرير هذا القرار.
وإسرائيل لم تستغل فقط تصريحات غولدستون الواردة في جريدة "واشنطن بوست" للتنصل من اتهامها بارتكاب جرائم حرب خلال عدوانها على قطاع غزة بين 27 / كانون و18 كانون ثاني/ 2009 ،بل ذهبت الحكومة الإسرائيلية الى هو أبعد من ذلك بالطلب من غولدستون الاعتذار عما ورد في تقريره،هذا التقرير الذي ساوى بين الضحية والجلاد،الجلاد الذي يستخدم كل أشكال وأنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً،وبين شعب أعزل ومقاومة متسلحة بأسلحة خفيفية وبدائية،مقاومة كفل لها القانون الدولي المشروعية في مقاومة الاحتلال والحق في الحرية والاستقلال.
من الطبيعي أن تشن إسرائيل وحلفائها حملة بل حرباً شعواء ضد غولدستون ولجنته وتقريره،فهذا التقرير فضح وعرى حقيقة إسرائيل كدولة عنصرية ومارقة وخارجة على القانون الدولي،كما انه ألحق بها الكثير من الضرر على العديد من المستويات السياسية والأخلاقية والقانونية،كون التقرير وبغض النظر عن تراجع غولدستون عنه،أصبح وثيقة من وثائق الأمم المتحدة وعنواناً لسلوك إسرائيل المنهجي الذي يعمل على خرق وانتهاك والخروج على القانون الدولي عبر ممارسة وانتهاك كل ما له صلة بحقوق الإنسان بحق الشعب الفلسطيني من قتل واعتقال وتدمير ومصادرة وهدم وغيرها من جرائم أخرى،وبما يجعل تلك الجرائم ترتقي الى مستوى جرائم ضد الإنسانية،وليس جرائم حرب فقط.
ربما صحيح أن مقالة غولدستون غير ذات قيمة ومعنى على المستويين التوثيقي والقانوني،حيث أصبح التقرير وثيقة من وثائق الأمم المتحدة،ويجري البحث والتداول لرفعه الى مجلس الأمن الدولي،ورغم إدراكنا أن حق النقض"الفيتو" الأمريكي وربما الأوروبي الغربي سيكون حاضراً عند التصويت،فهذه معركة ضارية علينا كفلسطينيين سلطة وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني وبما يشمل منظمات حقوق الإنسان،أن نخوضها بشكل موحد وأن نوظف لها كل طاقاتنا وإمكانياتنا وشبكة علاقاتنا عربياً واقليمياً ودولياً،من أجل استقطاب قوى اقليمية ودولية مناصرة لحقوق وقضايا شعبنا في مواجهة القوى الصهيونية وحلفائها الذين يمتلكون الكثير من التأثير والفاعلية على المستويين الدولي والإقليمي.
إسرائيل ستسعى وفي تصريح لأكثر من مسؤول إسرائيلي الى توظيف مقالة غولدستون سياسياً باعتبارها وثيقة تدين التقرير،كما أنها ستشكل لها دافعاً للتحرر من القيود التي كبلها بها التقرير من أجل إطلاق يدها وشن عدون جديد على غزة،فنتنياهو اعتبر التقرير تهديد استراتيجي لإسرائيل،ومن هنا تكمن أهمية توظيف المقالة سياسياً لإسرائيل،وأيضاً إسرائيل في هذا التوظيف تريد أن تنزع أية وثائق تشكل أسلحة في يد منظمات المجتمع المدني بالعالم وقوى شعبنا المختلفة باتجاه محاصرة إسرائيل كدولة خارجة عن القانون الدولي. وخطورة هذه المقالة أيضاً انها ستشجع العديد من الدول للتراجع عن إدانة إسرائيل وانتهاكها لحقوق شعبنا.
إننا بحاجة كفلسطينيين الى جهد موحد ومتكامل في الجانبين السياسي والقانوني،والرؤية والإستراتيجية السياسية الموحدة أيضاً هنا،لكي نخوض معركة سياسية وحقوقية ناجحة ضد مجموعات الضغط الصهيونية وما تمتلكه من تأثيرات دولية،أما خوض المعركة بشكل مربك وموقف غير صلب ومتماسك والهبوط به من الجانب المبدئي والحقوقي والقانوني الى المساومة السياسية،سيجعلنا نخسر هذه المعركة،كما خسرنا غيرها من المعارك،ولنا عبرة فيما حدث باللجنة التي شكلت للتحقيق في مجزرة مخيم جنين ومتابعة الرأي الإستشاري لمحكمة لاهاي حول عدم شرعية جدار الفصل العنصري،عبرة تقول بأن المساومات والمواقف المربكة والملتبسة ستقود الى مزيد من التراجعات لن يكون آخرها تراجع غولدستون.
0 comments:
إرسال تعليق