لا شك أن المتغيرات الجوهرية التي يشهدها عالمنا العربي في الوقت الراهن تعيد للأذهان المتغيرات التي شهدتها الساحة العربية في القرن الماضي عندما خرجت من الثكنات العسكرية مجموعات الضباط الأحرار، وقادت الثورات ضد الأنظمة الملكية آنذاك فما إن قاد الشاب جمال عبد الناصر دبابته ثائراً على قصر عابدين في أطهر ثورة بيضاء شهدها العالم العربي حتي سقطت الملكيات العربية واحدة تلو أخرى، وانفرط عقدها سريعاً بنفس المشهد والسيناريو الذي تتساقط فيه الجمهوريات الإمبراطورية العربية الحالية، مع اختلاف الأداة من شباب يرتدي البزة العسكرية إلى شباب تسلق قمة مواقع التواصل الاجتماعي وأشهرها" الفيسبوك"، توحدت الأهداف واختلفت لغة المحاكاة، وهو ما يدفعنا للحظر والحيطة من النتائج غير المبشرة حتى راهن اللحظة بمتغيرات جوهرية على الهيكلية البنيوية السياسية في واقع المنظومة السياسية العربية، ورغم ذلك فإن التغيير مطلوب لكي نتمكن من كسر حالة الجمود الثقافي والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، وإعادة إنتاج الروح الفاعلة في المنظومة الشاملة.
الحراك الشبابي العربي الذي أشعله " محمد البوعزيزي" تزامن أو تصادف مع حراك واسع ومبرمج في المنطقة العربية، بدأت ملامحه بغزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، وإعادة انتاج بعض القوى الإقليمية القديمة التي كان لها نفوذها في المنطقة في الحقب السالفة مثل " إيران وتركيا" على وجه التحديد، وهو ما أشعل المنطقة وجعلها هدفاً لحمم بركانية متفجرة، فسقطت بعض الدول تحت حمم البركان الملتهبة مثل تونس ومصر، ومنها من ينتظر مثل اليمن، وليبيا، وسوريا، والبحرين، وهي دول تشهد تحركات مختلفة عن سابقاتها من حيث إشعال الهوية الطائفية والتدخل الأجنبي، وهو ما أفقد حراك الشباب بريقه الطاهر وزخمه الشعبي الذي وجد بالحالتين المصرية، والتونسية، واليمنية على وجه التحديد.
هذه الأحداث تحولت لنموذج استرشادي للشباب العربي في شتى أماكن تواجده، وساد النمط التقليدي أي(التقليد) عند بعض النماذج العربية التي حاولت بلورة حالة نمطية ذات أهداف خاصة بها، وعلى وجه الدقة في فلسطين والعراق مع اختلاف الأهداف والمطالب، فالشباب الفلسطيني حدد أهدافه " بإنهاء الإنقسام" أما الشباب العراقي فحدد مطالبه " بتحسين الأوضاع الاجتماعية"، وبما أن النمط الذي ساد اعتمد على التقليد فإنه سرعان ما فشل، ولم يصمد طويلاً.
هذا الاستعراض المبسط للحالة العربية بمثابة مدخل للحالة الشبابية الفلسطينية التي أعلنت عن نفسها تحت مسمى الحراك الشعبي الفلسطيني لإنهاء الإنقسام، وهي حركات شبابية تلقائية وعفوية انطلقت تعبيراً عن رفض الشارع الفلسطيني للإنقسام الوطني، ولكنها حالة اعتمدت على منطق التقليد، والبحث عن وسائط ووشائج لإثبات وجود للصوت الفلسطيني الذي كان دوماً هو صاحب الصخب الأعلى في سماء المنطقة العربية والدولية، وعليه فشعور الشباب الفلسطيني بغياب صوته دفعه للتحرك العشوائي لإثبات ذاته، فكان من الطبيعي أن يكون صدى صوته خافتاً لم يُحدث أي هزات مؤثرة كما هي العادة، والسبب بل والأسباب متعددة ومتنوعة.
من خلال متابعتي المستمرة والدقيقة للحالة الفلسطينية( الحراك الشعبي) تنبأت بفشلها منذ بدايتها، بل كنت علىّ يقين بأن الحالة لن تحقق شيئاً علىّ الأرض، ولن يكون لها مؤثرات فعلية وهذا بناءً على عدة أسس ومرتكزات أساسية غابت عن هذا الحراك، يتمحور أهمها فيما ذهبت إليه سابقاً أن الحالة نشأت وولدت وتبلورت بنمطية التقليد، أو إثبات الوجود، بمعنى الحمية أو الغيرة التي شعر بها الشباب الفلسطيني مما يحدث حوله من الشباب العربي، فوجد نفسه بحالة سكون وجمود بعدما كان هو محط الأنظار دوماً، فسارع بالتحرك العشوائي لإثبات ذاته، طارحاً شعار" إنهاء الإنقسام" طرحاً شكلياً نظرياً، دون تحديد معنى ومفهوم الإنقسام، أو العلاقة الترابطية بين الإنقسام وقواه الفعلية، والتي اختزلت فقط في الجانب السياسي الشكلي بين حماس وفتح دون التعمق في الحالة الإنقسامية الفلسطينية وخلفياتها وقواها الأساسية والطبيعية، أو الإرتكاز لدراسة الخلفيات العقائدية والفكرية، والسياسية للقوى الفاعلة في الإنقسام، فتم التعامل مع جميع الأطراف بنمطية واحدة، أما العامل الثالث فهي طبيعة الشباب الفلسطيني الذي بدأ بالحراك، حيث بدأ الشباب الفلسطيني في مجموعات منقسمة غير موحدة الغاية والهدف، حيث تم رصد خمس أو أربع مجموعات بمسميات مختلفة وأفكار متباينة فيما بينها أضف لذلك أن البعض من هؤلاء الشباب استهدف تحقيق مآرب ذاتية وشخصية، وانطلق من قاعدة( الأنا) فأبهرته شخصية بعض الشباب المصرى، والهوجة الإعلامية التي أحاطت بهم مثل " وائل غنيم" على سبيل الحصر، فتسللت المطامع الشخصية للشباب الفلسطيني، وهو ما اتضح في تحركاتهم قبل الخامس عشر من آذار يوم التحرك الفعلي، حيث اتضح من هذه التحركات استجداء البعض لأجهزة الأمن في غزة ورام الله بإعتقالهم، والآخر استجدى وسائل الإعلام لتسليط الضوء عليه، وهو العامل الأهم الذي أفشل حركة الشباب الفلسطيني التي افتقدت لعامل المفاجآة والصدمة، والعامل الأساسي الذي نجحت من خلاله الثورة المصرية التي باغتت جهاز الاستخبارات وجهاز أمن الدولة المصريان بالنزول إلى الشارع والصمود في وجه آلة القمع والبطش التي تماسكت وانتصرت، مع عامل التضحية الذي غاب عن الحراك الشعبي الفلسطيني. ففي الوقت الذي ضحى به الشباب المصري بمئات الشهداء وصمد بعزيمة وإصرار، وكذلك الشباب التونسي، وأيضاً اليمني، لم يصمد الشباب الفلسطيني أمام هراوات حكومة حماس إطلاقاً بل تبعثر وتناثر في سماء غزة سريعاً، وعاد لنقطة الصفر، وذلك نتيجة غياب التحرك الهادف لقضية فعلية من نابع وطني عميق، واستغلال بعض القوى للحالة الشبابية الفلسطينية والعمل بقوة لإفشالها.
وحتى لا أكون مجحفاً بحق الشباب الفلسطيني فإن هناك العديد من العوامل الأخرى الهامة التي أفشلت تحركه ومساعيه والتي تمحورت في إلتفاف حركة حماس وحكومتها على تحركات الشباب من خلال عملية إلتفافية مخطط لها جيداً، وهذه التحركات هي نتاج التحركات العشوائية لشباب الحراك الشعبي الفلسطيني، حيث استطاعت حكومة حماس وحكومة رام الله دراسة العوامل النفسية للقائمين على الحراك جيداً، وبناء خطواتها الإلتفافية وفقاً لهذه النفسية وهو ما تحقق فعلاً، فاستطاعت حكومة حماس من إفشال التحرك قبل البدء به، وأيضاً حكومة رام الله التي استطاعت تقويض الحركة وحصرها في خيمة بدوار المنارة.
أضف لهذه العوامل عامل الاختطاف الذي مارسته الأحزاب والقوى الفلسطينية الأخرى التي سارعت في الزج بعناصرها من خلال مجموعات الحراك، بل وأنشأت بعض المجموعات، كعناوين حزبية معلومة للجميع، وهذا الخطأ الاستراتيجي الذي مارسته الأحزاب، حيث زجت بعناصرها التنظيمية المعروفة للشارع بالحراك، وغيبت العناصر الأخرى التي كان بإمكانها تحقيق الهدف بحيوية وفاعلية أكبر، وهي الفئة الشبابية الطلابية التي تنتمي للأطر الطلابية الجامعية والثانوية، ودفعها للصفوف الأمامية في الحراك مع تشكيل حائط إسناد خلفي من العناصر التنظيمية، دون أن تشكل عبء أو عامل إفشال للحراك الشبابي التلقائي والعفوي، وربما هذا ما تجلى في قدرة أجهزة حكومة حماس على تفريقهم بسرعه لأن أهدافهم شخصية وحزبية تخضع لمبدأ الربج والخسارة، غابت عنها روح التضحية والصمود التي تمثلت في حركات الشباب العربي. فالشباب الفلسطيني سقط لمجرد أن إرتفعت الهراوة في وجهة، وهذا ليس نتاج جبن وخضوع أو خوف ورعب بل لغياب الحافز الحقيقي الداخلي لدى الشباب المحزب والمؤطر.
كما أن حالة التشرذم لعناصر حركة فتح، وتسلل الرعب لديهم من قمع أجهزة حماس وتلاشي العامل المحفز الفاعل للصمود والمشاركة الفعلية، وهو ما انطبق على شباب حماس في الضفة الغربية أيضاً، أضعف من وحدانية ومركزية القرار الموحد والمشاركة الفاعلة في تكييف الفعل، مع صعود العوامل والمصالح الذاتية للبعض محاولاً استغلال الحدث لإحقاق مكاسب ذاتية وشخصية.
هذه العوامل والمرتكزات أفقدت الحراك الشعبي الشبابي الفلسطيني مقومات النجاح التي كان يمكن له تحقيقها بالمشاركة الشعبية الواسعه من قطاعات الشعب الفلسطيني التي كانت تترقب الحالة عن كثب، فإن صمدت وتمترست بقوة خلف هدفها لاستطاعت حسم غالبية أبناء الشعب الفلسطيني، وهي التجربة التي أثبتت نجاحها في اليمن حيث بدأت حركة الشباب اليمني بأعداد صغيرة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ولكن صمودها وثباتها حقق لها الدعم الشعبي، وهو ما افتقده الحراك الشعبي الفلسطيني الذي لم يستطيع الصمود والثبات في غزة ورام الله، ولذلك افتقد للدعم الشعبي.
وهنا يبرز سؤال هام؛ ما هو مستقبل الحراك الشعبي الفلسطيني ضد الإنقسام؟
من المتعارف عليه أن التنبؤ بالمستقبل يرتكز للعودة إلى الماضي لكي يمكن رسم ملامح ومعالم المستقبل وفق آليات سليمة وأسس صحيحة، وعليه فإن التنبؤ بمستقبل الحراك الشعبي الفلسطيني يستند للعديد من العوامل أهمها:
أولاً: هل اختار الشباب الفلسطيني التوقيت المناسب لحراكهم؟ الإجابة قطعاً (لا) إن التوقيت الذي حُدد للحراك هو الأسوأ، ومن أهم عوامل الفشل حيث لم يدرس الشباب الفلسطيني أو يتداركوا أن اللاعب الأساسي والهام في عملية المصالحة وإنهاء الإنقسام الفلسطيني – الفلسطيني هو مصر، ومصر كانت -ولا زالت- تشهد حالة تخبط داخلي، وإعادة تنظيم لأوضاعها الداخلية بعد الثورة، وبذلك لم تلقِ بثقلها في الساحه الفلسطينية، وعليه لم يتدراك الشباب الفلسطيني عامل التوقيت في تحركهم.
ثانياً: الحالة الإقليمية العامة التي يمكن من خلالها تحديد قوى الإنقسام الفعلية، والمؤثرة كعوامل ضغط في الساحة الفلسطينية وعلى رأس هذه القوى(إيران) والتي كانت تشهد حراك معقد للمعارضة الإيرانية مع حالة الترقب العصيبة التي كانت فيها سوريا كقوة فاعلة في الإنقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وإسرائيل التي كانت في حالة استنفار قصوى بقواها الداخلية والخارجية تترقب الأحداث في مصر، وكذلك الحال مع قطر وسوريا.
ثالثاً: الحالة الدولية وهي الحلقة الأوسع في دائرة التأثير وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، والتي كانت في حالة طوارئ مما يحدث في المنطقة العربية، فالمطبخ السياسي والأمني الأمريكي كان في حالة إنعقاد دائمة ولا زال في دراسة ومتابعة الأحداث الأكثر أهمية .
رابعاً: الساحة الداخلية الفلسطينية والإعداد النفسي والإجتماعي الداخلي الفلسطيني الذي تزامن مع الفيتو الأمريكي ضد الإستيطان، ورفض الرئيس أبو مازن سحب مشروع القرار من مجلس الأمن، وإنشغال حركة حماس في أحداث مصر بما أن الأخوان المسلمين عامل أساس في الحراك المصري.
خامساً: غياب الإعلام العربي والدولي في هذه المرحلة عن الأحداث الفلسطينية وإنشغاله بالأحداث الأهم على الساحة العربية، مع غياب الأطر المدنية والثقافية الفلسطينية عن التحرك الفاعل في إسناد ودعم حركة الشباب الفلسطيني.
من خلال العديد من المؤثرات فإن مستقبل الحراك الشبابي الفلسطيني يتحدد بدرجة من تلاشي الغموض والضبابية عن ملامحه ومعالمه في الوقت الآني. وبوجهة نظري الختامية أعتبره حراك بائس عشوائي لا يرتكز لأي مقومات نجاح في الوقت القريب، ورغم ذلك يمكنه من تجاوز بداياته الفاشلة في عملية إسناد شعبية فاعلة ومنظمة ومؤثرة من خلال تشكيل جبهة ضغط شعبية موحدة ومحددة المعالم في الشارع الفلسطيني، يقودها شباب فلسطيني مستقل ذو أهداف واضحة ومحددة بدقة.
0 comments:
إرسال تعليق