ثقافة النسور وثقافة الجِمال/ مهندس عزمي إبراهيم

يقاسي الشرق وتقاسي معه مصر من ثقافة الجِمال القابعة في صحراء الفكر العقيم تجتر ما في أجوافها من القديم المتخلف. في حين تنطلق الدول المستنيرة، حتى صغيرها، مُجَنّحة بثقافة النسور، منطلقة متطلعة نحو سماء الحرية والعلم والإبداع والفكر المنتج والقانون والمدنية!! وللعجب العجاب، والأسف، أن أبناء مصر نسَوْا أنهم هم أول من انطلقوا بها نسوراً في تلك السماء الثقافية الحضارية المُبدعة في فجر التاريخ، قبل أن يعرف العالم معنى كلمة "حضارة" وقبل أن تُقعدهم وتُقعدها ثقافة الصحراء. 
بعد معاناة قاسية في رحلة خسرت فيها مصر الكثير من الأرواح والموارد والاستقرار والأمان، بل والكرامة. انتفضت الملايين من شعب مصر بعد أن فاض بها متشوقة إلى الحرية والمساواة والتقدم والعيش الكريم. بدأت بحركة "تمرد" الشعبية الرائعة وحظت بمناصرة جيشها العظيم وكملت باستجابة قائده حينئذ، عبد الفتاح السيسي، لقيادة الأمة تحت إصرار الشعب في وحدة تاريخية قلما يجود بمثلها التاريخ، فأنهت رحلة الفساد والخراب بثورة 30 يونيو 2013. فكانت "ثورة شعب" بكل المقاييس، لا "انقلاب عسكري" كما يدَّعي المدّعون، داست بها مصر الشريفة العريقة على عناصر التخلف والتجمد والعنف والاستلاب والإرهاب.
ولا بد هنا من التحذير. فما حققته ثورة مصر من نصر شهدت به شعوب العالم، ومن أعظم معالمه بوادر مستقبل تقدمي لمصر والمصرين على أساس العلم والفكر والمدنية وعدالة القانون، إلا أن هذا النصر وتلك البوادر ليست بعد في مأمن!! فما زالت مصر هدفاً لسهام الإرهاب الديني، من داخلها ومن خارجها. ولو خسرت مصر، لا قدَّرَ الله، معركتها مع تلك العناصر الدينية الإرهابية (السافرة الرعناء والمستكنّة المتحفزة) فلن يمكن لها استعادة توازنها لفترة، بل لعصر قد يطول قروناً.
فعندما أشير إلى الإرهاب الديني فليس فقط إلى هؤلاء الذين يحملون القنابل والمتفجرات والسيوف والرايات السوداء والسكاكين الملطخة بدماء الأبرياء. بل أشير أيضاً إلى أصحاب العمائم الذين يلقنونهم نصوص العنف ويدرسونهم مناهج البغضاء ويفتون لهم بجواز التكفير والتهجير والتفجير والتدمير والسبي والاغتصاب وسفك الدماء وجزّ الرقاب وقطع الرؤوس.. بل وأكل أكباد وقلوب الضحايا!!
فاليوم.. يحاول الرئيس المخلص عبد الفتاح السيسي، بحكمة لا تخفى وجهد لا يكلّ إستعادة دور مصر الإقليمي والريادي بنفض الغبار عنها وجمع الجهود والعناصر الإيجابية من داخلها ومن خارجها لإعادة بنائها من جديد بعد ما نالها من تهاون واهمال وتخريب. كما أنه يحاول ضرب الإرهاب الديني والإرهابيين في داخل مصر وفي خارجها، بعد أن طغوا واستأسدوا وتحالفوا مع أعدائها وقتلوا مئات من أبنائها مواطنين وشرطة وجيش. وأيضاً يحاول أن يجمع أبناء مصر تحت جناحية في مودة ووئام وتوافق بعد أن تفتتت "أغلى وحدة في الوجود"، الوحدة الوطنية بمصر، حتى بين المسلمين والمسلمين، نتيحة استبدال الفكر المصري السمح والمستنير بالفكر البدوي العنصري القبلي البربري العنيف والمتخلف.
رغم هذه الجهود وغيرها من رئيس الجمهورية المنتخب من شعب مصر بنسبة فاقت الـ 97%، إذ بشيخ الأزهر وشيخ وزارة الأوقاف وشيخ دار الإفتاء ووكلائهم ومعاونيهم يتَحَدّوْنَه صراحة. فعنما ناشدهم بتبني ثورة دينية لتنقية الخطاب الديني لصالح الدين والوطن،ولقمع موجات التطرف والعنف والإرهاب إذ بهم (بعد قبول وجيز) يلقون بتوجيهاته عرض الحائط في تَحَدِ سافر معلنين اعتراضهم على مناشدته الهادفة. ولم يكتفِ الشيوخ بتحدّيهم المُعلن، بل تبعوه بسماحهم للسلفيين التيميين الوهابيين لاستعمال المساجد واعتلاء المنابر لبذر سمومهم المدمرة لمستقبل مصر وآمال المصريين.
هؤلاء الشيوخ يقفون اليوم بموقفهم الـ لا وطني ضد مناشدة الرئيس رغم ترحيب الشعب وتأييد الإعلام بأكمله. بل وتأييد المثقفين المستنيرين من أساتذة وعلماء الأزهر (العلماء الوطنيون حقاً) فالدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، على سبيل المثال، أكد أن "السيسي يقصد الثورة على الأفكار المتطرفة التي ليست من صحيح الدين ولا تتوافق معه." مضيفاً أن "دعوة السيسي الإصلاحية جاءت في الوقت المناسب بسبب ما نشاهده من أفكار متشددة ومتطرفة وفتاوى شاذة من جماعات تدعي الإسلام وهو منها براء". وفي مجال آخر أكد فضيلته "أن داعش خرج من عباءة السلفية" وأن "انتخاب السلفيين معناه دخول داعش البرلمان"
وكما قال نجوم الإعلام المصري، لا قداسة لشيوخ الدين. وأقول: بدءاً من فقهاء كتاتيب القرى والزوايا والمساجد إلى شيوخ الأزهر وجامعته ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ما هم إلا موظفين برواتب ومكافآت ومميزات سخية عديدة أخرى تُجتز من ميزانية الدولة ومن عرق أبناء الوطن. مسئوليتهم الأولى بصفة مطلقة، مثلهم مثل أي موظف أو عامل بالدولة، هي مساهمتهم في تأمين الوطن واستقراره وتقدمه، ومساندة رئيس الدولة بكل طاقاتهم لإعادة بناء مصر واستعادة مكانتها بين الدول، وإلا فتقصيرهم في ذلك خيانة وطنية بكل المقاييس!!
إن رسالة الأديان والعقائد الروحية في العالم، ما يُسمى منها سماوية أو وضعية، المفروض فيها والمتوقع منها جميعاً هو خير البشرية. والبشرية تبدأ بالوطن ومواطنيه. وإلا أصبح الدين حزباً طائفياً عنصرياً أنانياً مثله مثل أي حزب سياسي انتفاعي طائفي كالشيوعية والفاشية والنازية والبعثية والاشتراكية والرأسمالية وغيرها من الأحزاب السياسية، ولا دخل "للـــه" بها ولا صلة. بل وأصبح سجناً انعزالياً انزوائياً لتابعيه وباغضاً ومعادياً للبشرية وللوطن. وهذا بالضبط ما بدا ويبدو حتى اليوم من الأخوان المسلمين والسلفيين الوهابيين. لا ولاء لديهم للوطن، وفي الحقيقة... ولا للدين!!!!
***
إن سلام العالم كله، ومصر جزء منه، في خطر، والبشرية على حافة هاوية لا يعلم إلا الله مداها. ولن يأتي السلام للبشرية إلا بمساهمة الجميع في منهج السلام وفي موكب التعايش، بين الدول كلها، وبين الأديان كلها، وبين الإيديولوجيات كلها، وبين البرامج والطموحات السياسية والاقتصادية كلها على أساس مدني. وهو خدمة الأوطان والولاء الحق لها، وإحترام الإنسان واحترام حقه في الحياة وحقه في وطنه وحقه فيما يختار ليعبد، أو لا يعبد!!
لن أناشد الشيوخ، فهم "علماء يكرهون العلم" و"فقهاء لا يفقهون إلا الكتب الصفراء". لا يهمهم أن يتغيَّيَروا أو يُغيّروا أو يُصلحوا من أمورهم وأمور بلادهم شيئاً. هم تجار دين متجمدون متحجرون يرتزقون منه، ولا يعنيهم استقرار الوطن وارتقائه بمدنية عصرية ثقافية متطورة كباقي دول العالم، حتى تلك الدول التي كانت متأخرة عنا فتقدَّمت وسبقتنا في ركب الدول المتقدمة. الدول،  في عصرنا، حتى الصغير منها تنطلق نسوراً بأجنحة من علم وقانون نحو السماء ودول الشرق "بشيوخه" جِمال القابعة تجتر ما في جوفها من القديم.
أربعة عشر قرناً وشيوخ الدين يقودون الشرق (فعلا بقبضاتهم الدينية المتخلفة، سواء مباشرة أو من خلف الستار) فلم يُنتج الشرق أو يُبدع أو يَصنع أو يَخترع ولو آلة بسيطةً!! لم يتقدم الشرق تحت قيادتهم أو تداخلهم قيد أنملة. فهم يخدرون شعوبهم ويكلبشون حكامهم بالدين فيحجمونهم عن صالحهم وارتقاء أوطانهم، في سبيل احتفاظهم (هم) بكراسيهم ومناصبهم وسلطاتهم ومميزاتهم. وليس خافياً أن منهم اليوم من يستقبل مميزات عينية ومِنَح مالية من السعودية ودول الخليج الوهابية الذين لا يضمروا لمصر والمصريين خيراً.
لم يتقدم الشرق في تاريخه الإسلامي، إلا خلال فترة عصر النهضة حيث كانت مصر مدنية يديرها مدنيون أقوياء بدءاً من عصر محمد على. وما كان دور شيوخ الدين حينئذ إلا مساندة الحكومات المدنية. نحني هاماتنا للطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين وأمثالهم من أبناء المؤسسة الدينية، ولا ننسى سعد زغلول، زعيم الأمة بحق، خريج الأزهر، كانوا مصريين وطنيين مخلصين، ولاؤهم للوطن أولا، وكان الدين في خدمة الوطن. بذلوا جهوداً لنشر حرية الفكر وقيمة العلم ونقاء الدين وسماحته وباركوا التعددية والوطنية وقادوا حملة التنوير في الحياة السياسية والإجتماعية والأخلاقية فارتقت مصر في عصرهم. كانوا مسلمينً، وكانوا مصريين وطنيين حتى النخاع، لا تجار دين، موالين لدول أجنبية دون وطنهم!!
يا أبناء مصر.. لقد آن الأوان لندرك أن عدونا هو من داخلنا، هو في "أزهرنا" يُدَرِّس ثقافة الكراهية والذبح والسلب والسبي التي دخلت بلادنا مع الغزو العربي، وهو سبب تخلفنا وصراعاتنا. إن الدين مهما كان إنسانيّاً نقيّاً خَيّراً هو عنصريٌ طائفيّ بطبيعته. خطير عندما يختطفه الإرهابيون الطامعون متخذينه ستاراً لمطامحهم ووحشيتهم. وخطير أيضاً، بل أكثر خطورة، عندما يختطفه "موظفون بعمائم" يملكون المدرجات الدراسية وعقول أبنائنا وشبابنا ويخافون على كراسيهم ومناصبهم ويتحالفون مع مُصَدِّري الوهابية الإرهابية لمصر. لذلك لن أناشد شيوخ الدين فهم لا يسمعوا وإن سمعوا لا يفقهوا ولا يأبهوا!!!
أنا لا أتجنّى على شيوخنا، فها هي سلوكياتهم شهودٌ عليهم، بسماحهم للسلفيين الوهابيين باستعمال المساجد وارتقاء المنابر لبَثّ سمومَهم (ضد مصر!!!). رغم علم الشيوخ (يقيـــناً) بأن السلفيين هم أذناب ومأجورو السعودية العربية بأموال البترول اللعين، وهم من هتفوا بإسمها ورفعوا أعلامها على أرض مصر، وهم من نادوا ضمن ما نادوا به لتخريب مصر، بهدم الأهرامات وأبوالهول وباقي ثروة مصر من آثار ومعابد، وقتل الفن والعلم والموسيقى والاختراع والابداع والفكر الحر. وها هم اليوم بصفاقة وفجور يتحَدّون علانية سيادة الدولة والقانون والدستور والشرطة والجيش والشعب في محافظات صعيد مصر!!!!
أناشدكم يا نجوم مصر، المسلمين الوطنيين المثقفين المتحضرين رجال الفكر والفن والعلم والتعليم والإعلام وأساتذة الجامعات وخبراء الدستور والقانون والاجتماع والسياسة المخلصين أن تساندوا رئيس البلاد في جهوده المدنية الجادة نحو إعادة بناء مصر. وأن تنهضوا بإقرار أسس "المدنية الحقة" لصالح مصر والمصريين. بل ولصالح الدين ذاته. فالمدنية تحمي الدين. أما الدين فبجموده وقيوده وعنصريته يدهس المدنية والعلم وينكر العدل والمساواة، ويخشى الارتقاء والتطور فيقف ضدهما.. وهذا هو بالضبط ما يفعله شيوخ الدين!!
مهندس عزمي إبراهيـم

CONVERSATION

0 comments: