" الفنان الحر ... ينوء بعبء مهمة تجعل منه شخصية ملتبسة"[1]
لا يخفي على أحد تراجع الإبداع والجمال ، ولا يمكن انكار ندرة الإنتاج الثقافي الحامل للمعنى والمعبر عن القيم المطلقة والروائع الخالدة. ولقد أثار هذا الوضع الفني المتأزم أكثر من علامة استغراب حول أسباب تراجع الاهتمام بالذوق والابقاء على روعة الجمال طي الكتمان ، وقد تساءل الناقدين حول تأثير التقنية والتجارة ووسائل الاتصال الحديثة في تفجير أزمة الانحطاط وتمزيق الصورة الناصعة للفنان التي تشكلت مع الحداثة الجمالية وحول الظروف التي هيئت تجفيف منابع الابداع وأدت الى انتشار الرداءة في أروقة الفنون وأصابت النفوس بالجدب والتصحر والتعثر في الارتقاء بالوضع البشري إلى مستوى الكائن الثقافي والشخصية الخلاقة. لقد حاول بعض الفنانين في الحقبة المعاصرة التمرد على السائد والخروج من الأنماط الصارمة والقوالب الجاهزة وبذلوا جهودا لكي يتفادوا السير في المتاهات وانخرطوا في أفعال مواجهة القبح الطبيعي اليومي، وقاوموا ظاهرة اختفاء الجمال في الأعمال الفنية من جهة المبدع والمتلقي.
في هذا الإطار اهتمت الإستيطيقا المعاصرة بنفسية الفنان واعتبرته الفاعل الفني الأول وصاحب الدور الفعال والايجابي في تجربة الخلق الفني وأسندت له صفات الإلهام والعبقرية ونظرت اليه بإعجاب وثناء . أما علم الجمال النفسي فبحث في الآثار الفنية من جهة كونها وثائق نفسية تكشف عن طبيعة صانعيها أو عن طبيعة الجمهور الذي يتذوقها. من المعلوم التاريخي أن فكرة الإبداعية الحقيقية كانت غائبة تماما عن الفنان في العصر الإغريقي وكانت تنسب في الغالب إلى الآلهة ولكن الفنون الجميلة في عصر النهضة هيئت الأرضية لحدوث قطيعة ابستيمولوجية وثورة كوبرنيكية في مجال الفن بأن ظهرت النظرة الثاقبة عند الفنان وبرزت الحاجة إلى إحداث التحولات في تقنيات الابداع الجمالي والتكلم باسم الغير وأضحى الفنان محرضا على الأمل وطبيب حضارة وكائن الصيرورة ولاعب نرد ومبدع أشكال جديدة من الحياة. لكن بما يتميز الفنان من ملكات عن العامي؟ وماهي التجارب والحركات الفنية المطالب بالانخراط فيها لكي يكون فنانا حقيقيا؟ هل يجب أن يكون مبدعا أم ملتزما؟ وهل يجدر عليه اجادة الحكم أم امتلاك الذوق؟ومتى ظهرت كلمة فنان لأول مرة؟ وماذا كانت تعني؟ وماهي مختلف التحولات التي مرت بها ؟ هل الفنان هو مجرد حرفي أم مؤلف مبتكر؟ هل هو شخص موهوب وبارع أم هو عبقري يمتلك قدرات استثنائية؟ وماهو السر الكامن في تقلص رقعة معنى الجمال واتساع نطاق تسمية الفنان؟
في نهاية القرن 18 ولدت كلمة فنان في نطاق ضيق وللإشارة الى فئة قليلة من الحرفيين واستخدمت العبارة بمعنى النعت المحايد ولكن منذ القرن 19 اتسع نطاق تسمية فنان واستخدمت بمعنى النعت الايجابي وحملت معنى وصفي تقويمي وأشارت الى عازفي الموسيقى وممثلي المسرح والسينما والمؤلفين في الأدب. بعد ذلك حدث انزلاق للحكم الجمالي من العمل الفني الى الفنان وبدء التغير التدريجي في صورة الفنان وتم اعتبار الفنانين نماذج تتمتع بوضع استثنائي في المجتمع وتمتلك الأصالة والتفرد وتعامل بتثمين خاص ولك نتيجة تقدير الموهبة الكامنة والبراعة والكفاءة التي يتميز بها وليس سرعة التعلم والتمثل الذاتي للمواضع الخارجية ومعطيات الواقع والقدرة على فهم العلاقات واستيعابها. لقد بات الفنان ذا شأن رفيع وترتب عن تثمينه توسيعا في رقعة المعنى بحيث تزايدت الحدود في الفن المعاصر لتتعدى التصوير والرسم والنحت والموسيقى ولتشمل الصورة الفتوغرافية والفيديو والاستعراض السينوغرافي والعمران المدني والفلسفة. بل راجت عبارة صالحة للاستخدام في الفن المعاصر أكثر حيادية وتجسد حركة الفنان في جملة الممارسات الجديدة وهي صفة " تشكيلي ".بناء على ذلك يتميز الفنان بالمقارنة مع الإنسان العامي والفيلسوف ورجل الدين ورجل العلم بجملة من الخصال أهمها: -الموهبة والبراعة والأصالة والتفرد/ - الخصوصية في الإحساس
- الوضوح في التعبير/ - الالتزام الصادق والإخلاص في العمل
- اتساع الخيال /- سلامة الذوق / - استثمار اللاّشعور/- الحرية الخلاقة
في الحقيقة يوجد فرق جوهري بين الإنتاج الصناعي والإبداع الجمالي. كيف ذلك؟
المبدع الحقيقي ليس المصور المحاكي ولا المقلد الحرفي الذي يكتفي بالنقل والاستنساخ والتوليد الميكانيكي عن طريق التقنية والصناعة للمنتوجات بل الذي يعيد خلق العالم بالمعنى الحقيقي للكلمة ويحدث اليقظة في الجمهور ويمارس الفعل الثقافي ويتجاوز المعتاد ويهرب إلى عالم فوق الحقيقة ويؤسس وجوده المستقل ويتخذ من ذوقه فكرة حقيقية ويتسامى بموضوعه ويجعل من أشكاله أسلوبا خاصا به. بناء على ذلك يمتلك الفنان شخصية فريدة من نوعها وغريبة الأطوار تتميز بالإبهام والغموض والسرية من جهة ولكنها تلتزم بالأمانة والإخلاص والإتقان والوفاء والحب والصداقة واحترام الجوانب الإنسانية من جهة أخرى. كما تتصف حياة المؤلف بالتمرد على السائد والخروج عن المألوف والثورة على الأوضاع المتردية لحرصه على أن تؤدي الأعمال الفنية رسائل ايجابية وتأثيرات حيوية في شخصية المتلقي أو المتذوق ويؤكد على أنها خمس علاقات هي وظيفة اللهو وتطهير الانفعالات والنشاط التقني والتحسين والتكرار. تبعا لذلك يعبر العمل الفني عن شخصية مؤلفه ويعكس بعدا جماليا لسيرته الذاتية وما تتصف به من أمانة وصدق وإخلاص ودرجة اشتباكه مع الواقع وتغذيه من الخيال وإحساسه الجزئي ودرجة انفعاله من الأحداث. غير أن الفنان الموهوب هو الذي يوقع باسمه شيئا فريدا لا نظير له ولا يماثله أي عمل فني آخر وذلك بأن يجعله لحظة أخرى في تطور الفن ولا يقتصر على الاتباع الحرفي والتقليد والمحاكاة والنقل والاستنساخ. جدير بالملاحظة أن الإعجاب بالفنان ينبع من تحويل الفن في حياته من حرفة إلى مقام ومن مهنة شاقة إلى عادة جميلة ويحوز الفنان على التقدير لأمانته عند التعبير ومطابقته للوجدان وامتلاكه الذوق الرفيع والإحساس المرهف وتأليفه بين الجميل والحقيقي والخيّر. زد على ذلك يقوم الفنان بتعميم تجربته الجمالية ونشرها عند الناس ويقصد من ذلك استبدال الواقع المبتذل والمكرور والمحبط باللاّواقع والوهم والمتخيل ويجعل من تأمل الجميل فرصة للانطلاق والتحفز والتحرر من الأعباء والضغوطات والالتزامات وممارسة الهواية واللعب والتسلية وإضاعة الوقت والتفريج عن النفس والترويح عن الذات.
كما يساعد الفنان الناس على تطهير الانفعالات من الاندفاع وإفراغ النفس من العنف والفزع والحزن وشحنها بالشفقة والمحبة والفرح ويقوم بتحسينات خيالية للحياة الواقعية ويقوى ملكة الحلم بتربية الناس على الوعد والانتظار الجميل.جملة القول أن " المبدع لكي يكون فنانا حقا عليه أن يثبت أصالة وتفردا، وأن يثبت في الوقت نفسه قدرة على التعبير عما في داخليته على نحو يبلغ مستوى العالمية"2[2].
من ناحية عملية فإن الفنان ليس عبدا للواقع ولا يهرب من وطأة الظروف القاسية ولا يقتصر على كتابة وقائع راهنة بل يتحلى بالشجاعة والإقدام ويشارك في التغييرات التاريخية ويتحول الى كائن الحرية والالتزام بل يصبح محرضا على طلب الحرية وتحقيق الانعتاق ولذلك تترك كلماته أصداءها في مجتمعه وتشكل مقدرته الخلاقة قدوة لغيره ويدخل في مواجهة مع عصره ويساهم في حل قضاياه. في ها الاطار " ان الكلمات مسدسات عامرة بقذائفها فيجب أن يحسن الناثر التصويب الى أهدافه"3[3]. في حقيقة الامر الفنان ليس محايدا من الناحية الثقافية ولا نزيها بالمعنى الموضوعي ولكنه مورط في الصراع الاجتماعي ومطالب بأن يشهد على عصره ويصدح بموقفه الثوري ويعلن رأيه السديد ويحيط بماهو عالمي وإنساني. ومن المستحيل ألا يبالي الفنان بما يحدث في واقعه الاجتماعي وأن يدير ظهره للمعاناة والاستغلال ومن المخجل أن يشتغل بأشياء شكلية وجانبية ويهتم بقضايا الامتاع والمنفعة والأسلوب وأن يبحث عن الغائية في الطبيعة بينما الغائية الحقيقية هي التي يوجدها في الأدب والنثر والكتابة وقدرته على منح معنى للعالم. ان مسؤولية الفنان تقتضي عندئذ الالتزام الذي لا مفر لكل انسان منه وإلا سقط في سوء النية والهروب من الذات ومن مستلزماته نكران الذات وإيثار المصلحة المشتركة والابتعاد عن العزلة واختيار التموقع في المجتمع. كما أن الالتزام الذي يبديه الفنان له مناحي اجتماعية وسياسية ووجودية ويتجسد في الانحياز الى المظلومين والفقراء والمضطهدين ويتمثل في انارة الطريق أمام الناس من أجل كسر قيود العبودية والجهل واختيار طريق الانقاذ والإصلاح والثورة ولكن بالاحتفاظ بالاستقلالية والحرية الشخصية والقدرة على المبادرة. غير أن التزام الفنان لا يقتصر فقط على انخراطه في معارك يومية ومطاحنات فكرية بل يستوجب القاء النور على قيم الخلود والبطولة وإدراك الأبدي وتثمين القيم الانسانية والإيمان بالحرية والإحاطة بالكوني. لكن هل يكتفي الفنان بتلبية انتظارات الجمهور أم يرنو الى المزج بين الواقعي والمتخيل؟
الهوامش
[1] جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007، ص153.
[2] نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011. صص153-154
[3] جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ،.ص24.
المراجع
جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ.
جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007،
نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011.
[1] جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007، ص153.
[2] نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011. صص153-154
[3] جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ،.ص24.
0 comments:
إرسال تعليق