ثمة مظاهر ومشاهد متناقضة في المدينة المقدسة،فأنت تتلمس ذلك في أرض الواقع،وفي محاولة لفهم تلك الظواهر والمشاهد،علينا ان نستند الى التحليل الملموس للواقع الملموس،ففي اكثر من مناسبة واكثر من معركة جماهيرية وكفاحية حول قضايا وطنية ومجتمعية مع الإحتلال،كقضايا الأسرى والإستيطان والأقصى وهدم المنازل،رأينا بان الشباب المقدسي يتصدر المشهد في المدينة،بل لديه من المبادرات والإبداعات،التي جعلت منه المحرك الرئيس للشارع المقدسي والسابق للقوى والأحزاب السياسية في قيادة الشارع،وليس ادل على ذلك ففي مناسبات كثيرة مثل ذكرى النكبة ويوم الأرض وغيرها،كان الشباب المقدسي يتصدر الصفوف ويقود الشارع،وكذلك رأينا المبادرة الشبابية النوعية والمتمثلة بحشد اكبر عدد من شباب وأبناء شعبنا في أطول سلسلة قراءة حول سور القدس.
ونحن في إطار تشخيصنا لهذه المبادرات والإبداعات الشبابية مجتمعياً ووطنياً يجب ان لا يغيب عن بالنا بأن تلك الظواهر تعبير عن ان شبابنا لديهم القدرة على العطاء والتضحية،ولكن تلك الطاقات والمبادرات لا تجد حاضنة جدية وحقيقية تعمل على تاطيرهم وتنظيمهم وبما يستجيب لهمومهم ومشاكلهم ومبادراتهم وطموحاتهم،وحتى في إطار ما يقومون به من انشطة ومبادرات وإبداعات،تجد ان هناك من يثبط عزائم الشباب وهمتهم،ويعمل على إجهاض تلك المبادرات او الأنشطة،حتى لا ينكشف عجزه وقصوره،وعدم تحمله للمهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقه،وهناك من تراه من القوى والأحزاب من يركب الموجة لكي يصعد ويظهر على تلك النضالات والتضحيات أو يعمل على تجييرها لخدمة هذا الطرف او ذاك.
وفي الوقت الذي نثمن ونقدر لشبابنا وصباينا هذه الأدوار في خدمة قضايا مجتمعهم وشعبهم،إلا ان هذا يجب ان لا يعمينا عن رؤية الصورة من الزاوية الأخرى،او رؤية النصف الممتلىء من الكأس فقط،فواضح بأن الإحتلال في إطار الحرب الشاملة التي يشنها على شعبنا في مدينة القدس،اول ما يستهدف في حربه الفئة الحية من المجتمع ألا وهي الشباب،فهو يرى بان تلك الفئة والشريحة هي التي تشكل عصب الحركة الوطنية ورأس حربتها في مجابهة والتصدي لخطواته وممارساته وإجراءاته القمعية في مدينة القدس بحق أهلنا فيها،ولذلك نجده يضع على رأس جدول اعماله،فصل هؤلاء الشباب عن جسم الحركة الوطنية وإخراجهم من دائرة الفعل الوطني،ولذلك يرسم خططه وبرامجه على هذا الأساس،فعلى سبيل المثال يرى بأن الطريقة الأنجح والأسلم لهتك وتدمير النسيج المجتمعي المقدسي،تتأتى من خلال القدرة على إحتلال وعي هؤلاء الشباب والسيطرة على ذاكرتهم المجتمعية،وإضعاف إنتمائهم وثقتهم وقناعاتهم بمشروعهم الوطني وعدالة قضيتهم،وهذا المشروع يجري العمل عليه بشكل جدي من خلال أسرلة المناهج التعليمية في المدينة المقدسة،وبما يشوه وعي وإنتماء حوالي اكثر من (80) ألف طالب مقدسي،وبالمقابل يجري الزج بالطلبة المتسربين من المدارس والتي تصل نسبتهم في المظلة التعليمية التابعة لبلدية الإحتلال ودائرة معارفها في المرحلة الثانوية إلى 50 % في الأعمال السوداء في سوق العمل الإسرائيلي او دفعهم لدائرة إستغلالهم أو تجنيد قسم منهم في إطار خلق وإثارة الفتن والمشاكل الإجتماعية "الطوش" وغيرها من الآفات والأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات أو الإنغماس في الرذيلة واعمال البلطجة والزعرنة والتسكع.
والإحتلال هو يمارس هذا الدور من اجل عملية التخريب والتدمير الممنهج للمجتمع المقدسي وفي المقدمة منه الشباب،كهدف من الأهداف التي يسعى إليها،والتي لم تعد تقتصر على طريقة او اسلوب وحيد بعينه،بل نجد ان هناك مجموعة برامج ومشاريع يخطط لها لكي توصله للهدف،حيث نرى بان هناك ما يسمى بمشروع الخدمة"الوطنية"والذي يهدف من خلاله الى تجنيد الشباب المقدسي وجوهرهم الطلبة للعمل في مرافق واجهزة واعمال مدنية مرتبطة مباشرة بأجهزته الأمنية والشرطيه،او التي لها علاقة بتفريغ الشباب المقدسي من أي محتوى وطني.
ولكن ليس الإحتلال وحده هو المسؤول عن ما آلت وتؤول اليه اوضاع الشباب المقدسي،بل واضح بأن هناك ازمة مركبة ومتداخلة ومتشعبة يعيشها شبابنا في المدينة المقدسة،نتاج لأزمة إجتماعية عميقة يعيشها المجتمع الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة،وما نتج عنها من تدمير للكثير من القيم الإيجابية من تعاضد وتكاتف وتعاون وكذلك الإنهيار والإنحلال الأخلاقي والتفكك الأسري والمجتمعي،يضاف لها ما يعانيه الشباب المقدسي من ازمات اقتصادية،حيث 78% من أبناء القدس تحت خط الفقر،وإنسداد الأفق أمام الإستقرار والقدرة على العيش في المدينة،وتولد الشعور بالإحباط واليأس بين هؤلاء الشباب،حيث هويتهم الوطنية أصابها الكثير من التشويه،وفرص العمل أمامهم محدودة،فهم يشعرون بشكل جدي بغياب وفقدان العنوان والمرجعية والحاضنة لهم،يضاف لكل ذلك غياب الوعي والتوعية والمؤسسات التي ترعى وتهتم بشؤونهم،وتشكل الحاضنة والراعية لإبداعاتهم ومبادراتهم،والمعبرة عن همومهم ومشاكلهم.
في ظل كل ذلك ترى بأن هذا الشباب التائه والفاقد للأمل والمفرغ من الوعي والمحتوى والمتولد لديه شعور بالدونية تجاه عدوه، يخرج ويهيم على وجه ويتسكع في الشوارع ويقوم بافعال وممارسات، لا تنعكس او تنسجم مع قيمنا واخلاقنا،حيث نجد بان شوارع القدس وبالذات شارع صلاح الدين أو امام المدارس الثانوية والإعدادية،تتحول الى ساحات تسكع لشباب وطلاب أو حتى طالبات ،يريدون فيها ان يعبروا عن ذاتهم،ولفت الإنتباه إليهم،على انهم"دونجوان" عصرهم،او انهم الأقدر على الوصول الى قلوب الصبايا،او من ترى في نفسها بانها محور ومركز إهتمام الشباب،ويجري التعبير عن ذلك عبر التسكع بمجموعات من الشباب الذي طبعاً يحمل الأجهزة الحديثة والتي تنطلق منها اغاني او موسيقى غربية وعبرية،او من خلال "التمختر" بسياراتهم امام الصبايا"والسير بسرعة جنونية مع "تشحيط وتفحيط" والإستماع الى أغاني عبرية وغربية او عربية هابطة،وهذا تعبير عن عمق الأزمة وعدم الثقة بالنفس،وإعتبار أن الموسيقى العبرية او الغربية،نوع وشكل من التطور والتقدم،وليس الإغتراب عن الواقع، وكذلك ترى قطعان من أولئك الشباب يسيرون وتصدر عنهم ضحكات هستيرية،ومنهم من تجده بقصات شعر وملابس تمسخ الشخص كانسان،وترى العديد من هذه المجموعات المتسكعة والتائهة تلاحق الفتيات في الشوارع وتطلق العنان لبذاءتها وكلماتها الجارحة المتجاوزة للغزل،والتي تصل بالبعض لحد التحرش العلني والجسدي بالفتيات.
إننا امام ظاهرة جداً مسيئة،قد تشكل مخاطر جدية على المجتمع،وهي نتاج ازمات عميقة إجتماعية وجنسية،وغياب الوعي والتربية على اكثر من مستوى بيت ومؤسسة تعليمية أو ثقافية أو دينية،وكل ذلك انتج سلوك وقيم وثقافة مشوهة،تفعل فعلها في تدمير المجتمع،ولذلك نرى ان المسؤولية في هذا الجانب بحاجة لعلاج وتوعية وتثقيف ومساءلة ومحاسبة على اكثر من صعيد بيت ومدرسه وجامعة ومؤسسة شبابية او حزبية او دينية،والتصدي لهذا بحاجة الى فهم عميق لطبيعة الأزمة والمشكلة وإيجاد الطرق والأليات التي تمكن من وضع علاجات لها.
0 comments:
إرسال تعليق