( غِرّيد القصب ) *
مناسبة نادرة قلّما تتكرر في حياة البشر . كنتُ في التاسع من شهر شباط من هذا العام في الطريق إلى كربلاء صحبة الصديق العزيز عالي الجناب الأستاذ موسى فَرَج فتوقفنا في المُسيّب لزيارة الأستاذ سلام كاظم فرج وعائلته . في بيت أبي هشام السيد سلام قدّمت لي أم هشام مجموعتها القصصية " غِرّيد القصب " . وعدتها أنْ أكتب عنها وها إني أحاول الإيفاء بما وعدتُ . جلستُ معها في حجرة الإستقبال متجاورين في حين دخل سلام في حديث جاد مع موسى فرج . تصفّحتُ المجموعة سريعاً فوقع بصري على قصّة فيها تحمل عنوان " رمزية شاعرة ولكنْ " . كيف وقع بصري على عنوان هذه القصة ولماذا هذه القصة بالذات ؟ تلكم أمور أجهل أسبابها . قال أحد الفلاسفة إنَّ الصُدفة هي طريق تجلّي الضرورة فما وجه الضرورة هنا وفي هذا البيت وفي هذه المناسبة التي نادراً ما تحصل في الحياة ونادراً ما تتكرر ؟
كانت السيدة رمزية مدرّسة للأدب العربي واللغة العربية حين كانت سنيّة ما زالت طالبة في المرحلة الإعدادية . كيف كانت رمزية ؟ نقرأ ما كتبت طالبتها سنية عنها :
(( تتنقل بين مقاعد الدرس .. تتحدث كخبيرة بعلم النفس .. كأنها حورية خرجت توّاً من شرنقة الحياة .. تسحرهنَّ نبرات صوتها الرقيقة وهي تهمس بقصائد الشعراء العذريين خلال درس الأدب .. وجهها المشرق وجرس صوتها الحالم يمنح روحهنَّ نشوةً غريبةً وبهجة )) . هذه هي السيدة رمزية المدرّسة العراقية التي جاءت من بغداد لتقومَ بتدريس اللغة العربية والأدب لطالبات إعدادية مدينة المسيب للبنات . رسمت القاصة لها صورة مُخملية فيها لها عشق صوفي ( عُذري ) ، أحبّت مُدرّستها كشأن أغلب بقية الطالبات في سنيّ المراهقة الأولى حيث المعلمة هي الرمز والشوق والمثال والتمنّي أنْ لو كانت أمّها بدل أمّها الحقيقية . رمزية هي إذاً الحورية وهي الفراشة والساحرة والشاعرة واللحن الموسيقي وهي شمس الشرق وهي النشوة والحلم . ساحرة بقوامها وحركتها بين الطالبات وفي صوتها موسيقى ثمَّ إنها شاعرة تكتب قصائد الشعر الحر لكنها لا تنشر . لِمَ لا تنشر ؟ لم نحظَ بجواب عن هذا السؤال. أبقته القاصة غامضاً أو لعلَّ السيدة رمزية لم تشأ ولأمر ما أنْ تُفصح عنه (( .. لا أُحبّذُ النشر في الصحف لكنْ .. ربّما سأطبعُ مجموعتي الشعرية بكتاب مستقل .. ستقرأنه فيما بعد )) .
أين الصُدفة وأين الضرورة في إلتقاطي لهذه القصة بالذات من بين 44 قصة ضمّها الكتاب ؟ نجد الجواب على الصفحة الأخيرة لهذه القصة (( تميّزت بضحكتها الملائكية .. لكنْ .. لا نصيب للملائكة ولا الطيور في قفص الصيادين .. فهي أختُ المغيب كما الشمس .. وقصائدها .. إلتهمها تنور أمها الفخاري .. !!!! ذات فجيعة .. خفافيش العتمة تكره الطيور المحلّقة قُبّالةَ الشمس . إلتقيتها بعد أعوام . لم تعرفني .. !!! لكني هُرعتُ إليها كطفلة تعود لأحضان أمّها . أخبرتها أني مُدرّسة للغة العربية .. مثلها . لم تعدْ تلك الزهرة اليانعة حتى في ملبسها .. فقد غلبت عليه الألوان الداكنة بلا عناية . سمعتُ أنها لم تتزوجْ ولم تنشر قصيدة بل أنفقت سني عمرها منشغلة بأولاد أخيها الذي ضيّعته الحروب .الصفحة 107 )) . مَنْ كان يتوقع مثل هذه النهاية لتلك الفراشة الساحرة والملاك المموسق ؟ كانت واحدة من بين مئات آلاف ضحايا الحروب العبثية وجنون عظمة بعض الحكّام المستبدين . وجدتُ نفسي فيها وفيما آلت إليه هذه المربية الفاضلة والعراقية الأصيلة . كلانا يمتهن التدريس ويحترفه . هي شاعرة وتحب الأدب والشعر وأنا أهوى الأدب وأمارس قول بعض الشعر بين حين وآخر . كلانا مُسيّس هي بظرفها الخاص وأنا بظروفي الخاصة . سوى أني نجحت في الهرب من عراق صدام حسين وحزب البعث لكنَّ الست رمزية فاتتها فُرص الهروب فوقعت في الفخاخ المنصوبة للطيور المُغرّدة وما تسنّى لكافة المشتغلين في السياسة أنْ يغادروا العراق خلاصاً من سقوط سياسي أو سجن أو موت تحت التعذيب في سجون الطاغية أو موت في جبهات الحرب الطويلة . الصدفة وحدها قادتني لزيارة بيت الأستاذ سلام وهي نفس الصدفة ـ أو صدفة أخرى غيرها موازية لها أو متشعبة منها ـ عرّفتني على القاصة السيدة سنيّة عبد عون رشّو التي أهدتني مجموعتها القصصية " غرّيد القصب " . والصدفة جرّتني وأوقعت بصري على قصة المدرّسة البغدادية رمزية لأجد فيها مشابه مني كثيرة فكلانا ممتحن بذات المحنة وتربطنا جسور متينة سياسية ـ إنسانية ـ عقائدية ـ مهنية فضلاً عن رابطة الأدب والشعر . مصيرنا واحد وإنْ اختلفنا في بعض التفاصيل . واضح أنَّ أحداث هذه القصة قد وقعت في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إذْ كنتُ حينذاك خارج العراق الجحيم .
قصيدة " شموع الخضر .. تحمل دعاء الشيخ "
هل هي الصدفة ، صُدفة أخرى ، أنْ تكتب السيّدة سنيّة أم هشام هذه القصة تحت هذا العنوان وأنا أنشر قصيدة بعنوان " خضر الياس " ؟ إختلفنا في التفاصيل وطبيعي أنْ نختلف ولكنْ يبقى العنوان هو العنوان يربط قصتها بقصيدتي فأين اجتمعنا وكيف اختلفنا ؟ سنرى .
تتكلم القاصة سنية في هذه القصة عن رجل كبير السن يعيش وحيداً (( بعد أنْ تركته ابنتاه وتزوجتا.. أما زوجه فقد ودّعته أيضاً .. إلاّ أنه الوداعُ الأخير / الصفحة 54 )) . أما ولده يوسف فيظهر أنه سيق للحرب الطويلة ( 1980 ـ 1988 ) مع إيران . وظّفت القاصة بعضاً من آيات سورة يوسف كما جاءت نصوصها في القرآن من قبيل ( قالوا تاللهِ تفتؤ تذكرُ يوسف )) و (( إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله / الصفحة 54 )) . يوسف القاصّة العراقي هو يوسف إبن يعقوب الإسرائيلي وسنرى لاحقاً أنَّ دار الشيخ أبي يوسف قد غدا مثيلاً لجبِّ يوسفَ [ غيابة الجبِّ ] بعد التحاق ولده بجبهات القتال . هل نجحت القاصّة في هذه المعارضات والمقارنات وهل من الممكن مقارنة مصير يوسف العراقي بمصير وتفاصيل يوسف إبن يعقوب ؟ لم يقاتل هذا إنما خانته أخوة له حسداً وغيرةً منه [[ إني رأيتُ أحدَ عشرَ كوكباً والشمسَ والقمرَ رأيتهم لي ساجدين ]]. أسقطوه حيّاً في بئر وادعوا لأبيهم أنْ قد أكله الذئبُ. ثم وجده بعض السيّارة فأنقذوه من البئر ثم باعوه بثمن بخس " دراهمَ معدوداتٍ " لينتهي في مصر عبداً لعزيزها وخادماً لزوجه زُليخا التي راودته عن نفسه فهمَّتْ به وهمَّ بها لكنه من ثم استعصم وتعفف وقال (( معاذَ اللهِ .. إنه ربّي أكرمَ مثواي )) . يوسف العراقي لا أخبار عنه ... إختفى أثره أو لعله سقط قتيلاً في إحدى جبهات الحرب مع إيران حيث لا من ذئب يفترس ولا من سيّارة ينقذون ثم يبيعون . نجا يوسف العبراني ليغدو في نهاية المطاف أميناً على خزائن أرض مصر ومستشاراً للملك ومفسّراً لأحلامه ورؤى منامه . القاصة ليست معنية بهذه التفاصيل القديمة ولا من أحدٍ يطالبها بدقة التشبيه والإستعارة إنما انصبَّ جهدها القصصي على اختيار ما يلائم الحالات النفسية للشيخ الكبير فهو كيعقوبَ في فقد ولده وهو مثله في شكواه وبث هذه الشكوى لله .. وداره قد غدا مثل جب يوسف اليهودي العبراني . يجب أنْ أقولَ أنَّ السيدة سنيّة قد نجحت فيما استعارت وقرّبت معاناة الشيخ العراقي كصورة ناطقة مُكبّرة يراها القارئ ويتحسس مبلغ معاناة هذا الأب المُقاسي بفقد ولده الوحيد . نهاية هذا تختلف عن نهاية يوسف الآخر الذي نجا وصعد نجمه عالياً في مصر ليلتحق به أبوه وأخوته وباقي أفراد أسرته ويموت أبوه يعقوب ويُدفن في مصر كما تقول التوراة . يبدو لي أنَّ القاصة معجبة بقصة يوسف القرآنية فقد عادت إليها فذكرت " رؤيا جب يوسف / الصفحة 123 ، قصة اللعنة " . كانت المرحومة جدتي العلوية فهيمة ناصر تحفظ الكثير من آيات سورة يوسف خاصة تلك التي تتكلم عن النساء ولم تكنْ لتكفَّ عن ترديد " إنَّ كيدهنَّ عظيم " . أعود لباقي أجزاء القصة . سنعرف أنَّ يوسف العراقي لم يسقط قتيلاً على جبهات القتال إنما كان أسيراً ويعود لوطنه العراق ليفاجأ بموت والده الشيخ . الغائب يحضر والحاضر يغيب ! حضور الغياب وغياب الحضور !
ماذا عن الخضر وأين شموعه ؟
(( على لوحة خشبية تنتظم شموعه يدفعها صديقه علي لتنسابَ مع انسياب موجات نهر الفرات إنها شموع الخضر لمن يُريدُ أنْ يطلب مُراده في ليلة الجمعة / الصفحة 55 )). ثم نقرأ ما كتب يوسف الغائب من شعر في دفتر قديم :
(( بين موجات نهر الفرات تسري أحلام الصبى
بابلُ حبّكِ أوجعني
فراتكِ عشقهُ كبّلني
بقيودِ الحبِ أو الموت
المفوّهون باسم الوطن
جُرذٌ ينتعلُ حذاءَ تزّلج
وقفَ الزمنُ مُلتهباً يضجُّ أنيناً
يتنفسُ قيحاً
الكلُّ مُنشغلٌ بواحدٍ
والواحدُ غيرَ آبهٍ لسحقه بيتَ نمل .. )).
أجدُ السيّدة سنيّة فيما قال المقاتل الغائب من شعر . أراها بعيانها وتربة مسقط رأسها وفي ماء نهر الفرات الذي يقسم مدينة المُسيّب نصفين . والمسيب تقع في محافظة بابل . إنها تعود بنفسها وتراث أهلها ونشأتهم إلى العراق البابلي القديم حيثُ الأصل والجذور. الحروب تمرُّ وتضعُ أوزارها ويحل بعدها السلمُ والكل يتبدّل ويتغير غير أنَّ بابل التاريخ والرمز تبقى بابلاً ، بابل الخيال واتقاد الشعلة في قلب القاصّة . هل اختارت سنيّة هذا المقطع الشعري [ لها أو لغيرها ؟ ] إعتباطاً ... تتمةً لفضاء فارغ ؟ كلاّ ثم كلاّ . إنسانها فيها هو الذي اختار . الروح المُبدعة فيها أخذت يدها إلى حيث مكامن الإبداع الأصيل . المبدعون والمبدعات هم عبيد لمَلكَة الإبداع فيهم . كلنا عبيدٌ لما لا نشاء .
فعلت أخيراً شموع خضر الياس فعلها المرجو . تحقق مُراد الشيخ ولكن بعد أنْ فارق الحياة . عاد ولده من جبهات الحرب سالماً (( .. إلاّ أنَّ بيت الجد استوقفها فقد رأت بابه مُشرعةً على مصراعيها وفيها من يدخل وفيها من يخرج سمعت زغاريد النسوة وزوج يوسف بأبهى حلّتها تنثر الحلوى والناسُ تُباركُ لها خير وبركة عودة يوسف من الأسر / الصفحة 58 )) .
نهاية سعيدة لبداية حزينة أحسنت سنيّة رشّو في وضعهما في الأطر المناسبة ومن خلال سرد نظيف رقيق مُتقن اللغة مُحكم الإتصالات فاللغة هي بعض روح صاحبتها .
لا بدَّ لي من أنْ أُلفت النظر إلى قصة أخرى ليت غيري يقوم بمهمة عرضها وتحليلها هي قصة " رقصة الحبل " فهي واحدة أخرى من الروائع .
كما يحلو لي أنْ أُهدي قصيدتي " خضر الياس " للسيدة الغالية أم هشام ما دام الخضر وشموع وياس الخضر قد جمعتنا ( من غير ميعاد ) كما تقول إحدى الأغاني :
مناسبة نادرة قلّما تتكرر في حياة البشر . كنتُ في التاسع من شهر شباط من هذا العام في الطريق إلى كربلاء صحبة الصديق العزيز عالي الجناب الأستاذ موسى فَرَج فتوقفنا في المُسيّب لزيارة الأستاذ سلام كاظم فرج وعائلته . في بيت أبي هشام السيد سلام قدّمت لي أم هشام مجموعتها القصصية " غِرّيد القصب " . وعدتها أنْ أكتب عنها وها إني أحاول الإيفاء بما وعدتُ . جلستُ معها في حجرة الإستقبال متجاورين في حين دخل سلام في حديث جاد مع موسى فرج . تصفّحتُ المجموعة سريعاً فوقع بصري على قصّة فيها تحمل عنوان " رمزية شاعرة ولكنْ " . كيف وقع بصري على عنوان هذه القصة ولماذا هذه القصة بالذات ؟ تلكم أمور أجهل أسبابها . قال أحد الفلاسفة إنَّ الصُدفة هي طريق تجلّي الضرورة فما وجه الضرورة هنا وفي هذا البيت وفي هذه المناسبة التي نادراً ما تحصل في الحياة ونادراً ما تتكرر ؟
كانت السيدة رمزية مدرّسة للأدب العربي واللغة العربية حين كانت سنيّة ما زالت طالبة في المرحلة الإعدادية . كيف كانت رمزية ؟ نقرأ ما كتبت طالبتها سنية عنها :
(( تتنقل بين مقاعد الدرس .. تتحدث كخبيرة بعلم النفس .. كأنها حورية خرجت توّاً من شرنقة الحياة .. تسحرهنَّ نبرات صوتها الرقيقة وهي تهمس بقصائد الشعراء العذريين خلال درس الأدب .. وجهها المشرق وجرس صوتها الحالم يمنح روحهنَّ نشوةً غريبةً وبهجة )) . هذه هي السيدة رمزية المدرّسة العراقية التي جاءت من بغداد لتقومَ بتدريس اللغة العربية والأدب لطالبات إعدادية مدينة المسيب للبنات . رسمت القاصة لها صورة مُخملية فيها لها عشق صوفي ( عُذري ) ، أحبّت مُدرّستها كشأن أغلب بقية الطالبات في سنيّ المراهقة الأولى حيث المعلمة هي الرمز والشوق والمثال والتمنّي أنْ لو كانت أمّها بدل أمّها الحقيقية . رمزية هي إذاً الحورية وهي الفراشة والساحرة والشاعرة واللحن الموسيقي وهي شمس الشرق وهي النشوة والحلم . ساحرة بقوامها وحركتها بين الطالبات وفي صوتها موسيقى ثمَّ إنها شاعرة تكتب قصائد الشعر الحر لكنها لا تنشر . لِمَ لا تنشر ؟ لم نحظَ بجواب عن هذا السؤال. أبقته القاصة غامضاً أو لعلَّ السيدة رمزية لم تشأ ولأمر ما أنْ تُفصح عنه (( .. لا أُحبّذُ النشر في الصحف لكنْ .. ربّما سأطبعُ مجموعتي الشعرية بكتاب مستقل .. ستقرأنه فيما بعد )) .
أين الصُدفة وأين الضرورة في إلتقاطي لهذه القصة بالذات من بين 44 قصة ضمّها الكتاب ؟ نجد الجواب على الصفحة الأخيرة لهذه القصة (( تميّزت بضحكتها الملائكية .. لكنْ .. لا نصيب للملائكة ولا الطيور في قفص الصيادين .. فهي أختُ المغيب كما الشمس .. وقصائدها .. إلتهمها تنور أمها الفخاري .. !!!! ذات فجيعة .. خفافيش العتمة تكره الطيور المحلّقة قُبّالةَ الشمس . إلتقيتها بعد أعوام . لم تعرفني .. !!! لكني هُرعتُ إليها كطفلة تعود لأحضان أمّها . أخبرتها أني مُدرّسة للغة العربية .. مثلها . لم تعدْ تلك الزهرة اليانعة حتى في ملبسها .. فقد غلبت عليه الألوان الداكنة بلا عناية . سمعتُ أنها لم تتزوجْ ولم تنشر قصيدة بل أنفقت سني عمرها منشغلة بأولاد أخيها الذي ضيّعته الحروب .الصفحة 107 )) . مَنْ كان يتوقع مثل هذه النهاية لتلك الفراشة الساحرة والملاك المموسق ؟ كانت واحدة من بين مئات آلاف ضحايا الحروب العبثية وجنون عظمة بعض الحكّام المستبدين . وجدتُ نفسي فيها وفيما آلت إليه هذه المربية الفاضلة والعراقية الأصيلة . كلانا يمتهن التدريس ويحترفه . هي شاعرة وتحب الأدب والشعر وأنا أهوى الأدب وأمارس قول بعض الشعر بين حين وآخر . كلانا مُسيّس هي بظرفها الخاص وأنا بظروفي الخاصة . سوى أني نجحت في الهرب من عراق صدام حسين وحزب البعث لكنَّ الست رمزية فاتتها فُرص الهروب فوقعت في الفخاخ المنصوبة للطيور المُغرّدة وما تسنّى لكافة المشتغلين في السياسة أنْ يغادروا العراق خلاصاً من سقوط سياسي أو سجن أو موت تحت التعذيب في سجون الطاغية أو موت في جبهات الحرب الطويلة . الصدفة وحدها قادتني لزيارة بيت الأستاذ سلام وهي نفس الصدفة ـ أو صدفة أخرى غيرها موازية لها أو متشعبة منها ـ عرّفتني على القاصة السيدة سنيّة عبد عون رشّو التي أهدتني مجموعتها القصصية " غرّيد القصب " . والصدفة جرّتني وأوقعت بصري على قصة المدرّسة البغدادية رمزية لأجد فيها مشابه مني كثيرة فكلانا ممتحن بذات المحنة وتربطنا جسور متينة سياسية ـ إنسانية ـ عقائدية ـ مهنية فضلاً عن رابطة الأدب والشعر . مصيرنا واحد وإنْ اختلفنا في بعض التفاصيل . واضح أنَّ أحداث هذه القصة قد وقعت في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إذْ كنتُ حينذاك خارج العراق الجحيم .
قصيدة " شموع الخضر .. تحمل دعاء الشيخ "
هل هي الصدفة ، صُدفة أخرى ، أنْ تكتب السيّدة سنيّة أم هشام هذه القصة تحت هذا العنوان وأنا أنشر قصيدة بعنوان " خضر الياس " ؟ إختلفنا في التفاصيل وطبيعي أنْ نختلف ولكنْ يبقى العنوان هو العنوان يربط قصتها بقصيدتي فأين اجتمعنا وكيف اختلفنا ؟ سنرى .
تتكلم القاصة سنية في هذه القصة عن رجل كبير السن يعيش وحيداً (( بعد أنْ تركته ابنتاه وتزوجتا.. أما زوجه فقد ودّعته أيضاً .. إلاّ أنه الوداعُ الأخير / الصفحة 54 )) . أما ولده يوسف فيظهر أنه سيق للحرب الطويلة ( 1980 ـ 1988 ) مع إيران . وظّفت القاصة بعضاً من آيات سورة يوسف كما جاءت نصوصها في القرآن من قبيل ( قالوا تاللهِ تفتؤ تذكرُ يوسف )) و (( إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله / الصفحة 54 )) . يوسف القاصّة العراقي هو يوسف إبن يعقوب الإسرائيلي وسنرى لاحقاً أنَّ دار الشيخ أبي يوسف قد غدا مثيلاً لجبِّ يوسفَ [ غيابة الجبِّ ] بعد التحاق ولده بجبهات القتال . هل نجحت القاصّة في هذه المعارضات والمقارنات وهل من الممكن مقارنة مصير يوسف العراقي بمصير وتفاصيل يوسف إبن يعقوب ؟ لم يقاتل هذا إنما خانته أخوة له حسداً وغيرةً منه [[ إني رأيتُ أحدَ عشرَ كوكباً والشمسَ والقمرَ رأيتهم لي ساجدين ]]. أسقطوه حيّاً في بئر وادعوا لأبيهم أنْ قد أكله الذئبُ. ثم وجده بعض السيّارة فأنقذوه من البئر ثم باعوه بثمن بخس " دراهمَ معدوداتٍ " لينتهي في مصر عبداً لعزيزها وخادماً لزوجه زُليخا التي راودته عن نفسه فهمَّتْ به وهمَّ بها لكنه من ثم استعصم وتعفف وقال (( معاذَ اللهِ .. إنه ربّي أكرمَ مثواي )) . يوسف العراقي لا أخبار عنه ... إختفى أثره أو لعله سقط قتيلاً في إحدى جبهات الحرب مع إيران حيث لا من ذئب يفترس ولا من سيّارة ينقذون ثم يبيعون . نجا يوسف العبراني ليغدو في نهاية المطاف أميناً على خزائن أرض مصر ومستشاراً للملك ومفسّراً لأحلامه ورؤى منامه . القاصة ليست معنية بهذه التفاصيل القديمة ولا من أحدٍ يطالبها بدقة التشبيه والإستعارة إنما انصبَّ جهدها القصصي على اختيار ما يلائم الحالات النفسية للشيخ الكبير فهو كيعقوبَ في فقد ولده وهو مثله في شكواه وبث هذه الشكوى لله .. وداره قد غدا مثل جب يوسف اليهودي العبراني . يجب أنْ أقولَ أنَّ السيدة سنيّة قد نجحت فيما استعارت وقرّبت معاناة الشيخ العراقي كصورة ناطقة مُكبّرة يراها القارئ ويتحسس مبلغ معاناة هذا الأب المُقاسي بفقد ولده الوحيد . نهاية هذا تختلف عن نهاية يوسف الآخر الذي نجا وصعد نجمه عالياً في مصر ليلتحق به أبوه وأخوته وباقي أفراد أسرته ويموت أبوه يعقوب ويُدفن في مصر كما تقول التوراة . يبدو لي أنَّ القاصة معجبة بقصة يوسف القرآنية فقد عادت إليها فذكرت " رؤيا جب يوسف / الصفحة 123 ، قصة اللعنة " . كانت المرحومة جدتي العلوية فهيمة ناصر تحفظ الكثير من آيات سورة يوسف خاصة تلك التي تتكلم عن النساء ولم تكنْ لتكفَّ عن ترديد " إنَّ كيدهنَّ عظيم " . أعود لباقي أجزاء القصة . سنعرف أنَّ يوسف العراقي لم يسقط قتيلاً على جبهات القتال إنما كان أسيراً ويعود لوطنه العراق ليفاجأ بموت والده الشيخ . الغائب يحضر والحاضر يغيب ! حضور الغياب وغياب الحضور !
ماذا عن الخضر وأين شموعه ؟
(( على لوحة خشبية تنتظم شموعه يدفعها صديقه علي لتنسابَ مع انسياب موجات نهر الفرات إنها شموع الخضر لمن يُريدُ أنْ يطلب مُراده في ليلة الجمعة / الصفحة 55 )). ثم نقرأ ما كتب يوسف الغائب من شعر في دفتر قديم :
(( بين موجات نهر الفرات تسري أحلام الصبى
بابلُ حبّكِ أوجعني
فراتكِ عشقهُ كبّلني
بقيودِ الحبِ أو الموت
المفوّهون باسم الوطن
جُرذٌ ينتعلُ حذاءَ تزّلج
وقفَ الزمنُ مُلتهباً يضجُّ أنيناً
يتنفسُ قيحاً
الكلُّ مُنشغلٌ بواحدٍ
والواحدُ غيرَ آبهٍ لسحقه بيتَ نمل .. )).
أجدُ السيّدة سنيّة فيما قال المقاتل الغائب من شعر . أراها بعيانها وتربة مسقط رأسها وفي ماء نهر الفرات الذي يقسم مدينة المُسيّب نصفين . والمسيب تقع في محافظة بابل . إنها تعود بنفسها وتراث أهلها ونشأتهم إلى العراق البابلي القديم حيثُ الأصل والجذور. الحروب تمرُّ وتضعُ أوزارها ويحل بعدها السلمُ والكل يتبدّل ويتغير غير أنَّ بابل التاريخ والرمز تبقى بابلاً ، بابل الخيال واتقاد الشعلة في قلب القاصّة . هل اختارت سنيّة هذا المقطع الشعري [ لها أو لغيرها ؟ ] إعتباطاً ... تتمةً لفضاء فارغ ؟ كلاّ ثم كلاّ . إنسانها فيها هو الذي اختار . الروح المُبدعة فيها أخذت يدها إلى حيث مكامن الإبداع الأصيل . المبدعون والمبدعات هم عبيد لمَلكَة الإبداع فيهم . كلنا عبيدٌ لما لا نشاء .
فعلت أخيراً شموع خضر الياس فعلها المرجو . تحقق مُراد الشيخ ولكن بعد أنْ فارق الحياة . عاد ولده من جبهات الحرب سالماً (( .. إلاّ أنَّ بيت الجد استوقفها فقد رأت بابه مُشرعةً على مصراعيها وفيها من يدخل وفيها من يخرج سمعت زغاريد النسوة وزوج يوسف بأبهى حلّتها تنثر الحلوى والناسُ تُباركُ لها خير وبركة عودة يوسف من الأسر / الصفحة 58 )) .
نهاية سعيدة لبداية حزينة أحسنت سنيّة رشّو في وضعهما في الأطر المناسبة ومن خلال سرد نظيف رقيق مُتقن اللغة مُحكم الإتصالات فاللغة هي بعض روح صاحبتها .
لا بدَّ لي من أنْ أُلفت النظر إلى قصة أخرى ليت غيري يقوم بمهمة عرضها وتحليلها هي قصة " رقصة الحبل " فهي واحدة أخرى من الروائع .
كما يحلو لي أنْ أُهدي قصيدتي " خضر الياس " للسيدة الغالية أم هشام ما دام الخضر وشموع وياس الخضر قد جمعتنا ( من غير ميعاد ) كما تقول إحدى الأغاني :
فلسفة الشموع / خِضر الياسْ
يطفو ..
ياساً أخضرَ فوق سطوحِ الماء الجاري
النارُ تُنيرُ طريقَ المجرى
النارُ تذيبُ الشمعَ الطافي
لكنَّ الماءَ المركوبَ هو الماءُ
يحملها أنّى شاءتْ
يأخذها النهرُ وئيدا
لتخومِ الأفُقِ المجهولِ النائي
الشاهدُ مشدودُ الأعصابِ
يخشى أنْ تغرقَ في الماءِ النارُ
يَرقبُها مُحمّرَ العينينِ
قبضتُهُ من شمعِ خلايا النحلِ
أنفاسُ الناسِ محطّاتُ قطارٍ يصعدُ للأعلى
يلهثُ إذْ يرقى
سيّدتي ( زادُ الشهرِ )
تحملُ للخضرِ الآسي نذرا .
*
غرّيد القصب : مجموعة قصصية للسيدة سنيّة عبد عون رشّو . الطبعة الأولى كانون الثاني 2012 . إصدار مؤسسة المثقف العربي / سيدني ـ أستراليا .
يطفو ..
ياساً أخضرَ فوق سطوحِ الماء الجاري
النارُ تُنيرُ طريقَ المجرى
النارُ تذيبُ الشمعَ الطافي
لكنَّ الماءَ المركوبَ هو الماءُ
يحملها أنّى شاءتْ
يأخذها النهرُ وئيدا
لتخومِ الأفُقِ المجهولِ النائي
الشاهدُ مشدودُ الأعصابِ
يخشى أنْ تغرقَ في الماءِ النارُ
يَرقبُها مُحمّرَ العينينِ
قبضتُهُ من شمعِ خلايا النحلِ
أنفاسُ الناسِ محطّاتُ قطارٍ يصعدُ للأعلى
يلهثُ إذْ يرقى
سيّدتي ( زادُ الشهرِ )
تحملُ للخضرِ الآسي نذرا .
*
غرّيد القصب : مجموعة قصصية للسيدة سنيّة عبد عون رشّو . الطبعة الأولى كانون الثاني 2012 . إصدار مؤسسة المثقف العربي / سيدني ـ أستراليا .
0 comments:
إرسال تعليق