نلاحظ في هذا النص (رؤياي) أن الشاعرة صورت الموت بـ (زهرة برّيّة يتضوّع عبيرها)، ووجود كلمة (برية) يحمل دلالات كثيرة وأهمها أنها أكدت أن الموت فعل خارج عن إرادة الإنسان ومساهمته به كما الزهرة البرية، وفي نفس الوقت شبهت الموت بالزهرة الجميلة عبقة العبير، وترى نفسها خلال عملية الرحيل/ الموت، كهالة من نور تحف بها ملائكة النور بموكب مهيب تعبر فيه المجرات، وتحرسها النجوم حتى تصل الروح إلى نهاية الرحلة.
الموت ورحلة الرحيل تكررت في نصوص الشاعرة التونسية، فنجدها في نص يحمل اسم: (أكبر من المسافة)، نجدها أيضاً تصور نفسها (هالة من نور سابحة أنا)، وفي نص آخر يحمل اسم: (حنين وشجن)، نراها تحلم بالرحلة والغرق فتقول: (و أحنّ للغرق، تحضُنُني اللّجة، عروس بحر تُردّد لحون الأعماق)، وفي نص (لهيب الذاكرة) تقول: (أستسلم للحلم لصخب الصّمت)، بينما في نصها: (أكوووون)، تقترب أكثر من الفكرة حين تهمس: (على أعتاب الآلهة أتلقّى المعنى) وتكمل: (فتتلقّفني ملائكة الرّوح، تعرجُ بي إلى سماءات، آلهةُ الشّوق تحرُسُها) بينما في نصها: (غياب الحضور)، تكون أكثر قرباً لفكرة الموت والهدف منها حيث تقول: (لترتفع الرّوح أملاً بالخلاص.. ترفعني إلى سدرة المنتهى)، وفي معظم نصوص جودة نجد فكرة الرحيل والحلم بها تتكرر بشكل أو بآخر.
والغريب أيضاً إصرار الشاعرة على تصوير الموت وكأنه حالة من عشق يغشاها: (وأبلغ المنتهى.. عشقاً يغشاني)، حلم أنيق تحلم به، وترى أن الحياة تكون به وفيه.. (أموووووت... يا حلمي الأنيق)، هذه الحالة التي تكررت بصور مختلفة في نصوص جودة حول الموت وتصويره بهذه الجمالية، يثير في روح القارئ أكثر من سؤال؛ فهل الشاعرة وصلت إلى مرحلة من رفض الحياة بحيث صار الموت هو الحلم الأجمل لها تحلم به وتنتظره، أم أنها وصلت إلى مرحلة من التصوف والانسلاخ عن الحياة الدنيوية، بحيث أصبح الحلم بالموت والانتقال إلى الحياة الأخرى هو المبتغى الذي أصبحت تحلم به كما يحلم به النساك المتصوفين؟ وإن كان العنوان للنص (رؤياي) إضافة إلى ما ورد في العديد من نصوصها الأخرى، يجعلني أكثر ميلاً لفكرة المتصوفين، فهم من يذوبون من خلال التعبد بالذات الإلهية كما قرأنا في أشعار عمر بن الفارض ورابعة العدوية وغيرهم من المتصوفين المشهورين، فجميعهم كان الموت بالنسبة إليهم حلماً جميلاً للوصول إلى العالم الآخر ضمن رحلة تحف بها الملائكة والنور.
(رام الله 1/3/2013)
0 comments:
إرسال تعليق