أصلُ ساحةَ سجن الرملة في ساعة صباحية. منذ تاريخ الظلمة، أتردَّد بوتيرة متعبّد على هذا المعقل. أهرول، أبلع ريقي بصعوبة وكأنني أغصّ في قضم سفرجلة، ومن برد يلسع وجهي. وجوه من قابلت، فيما خلا من أشهر، تتهافت كالرماح. أصواتهم في أذني وأعمق، تتدافع موجاتِ ألم وإصرارًا يردِّد: إن كان لا بدَّ من قبر فلا تدع سقوطنا أمامهم. أطلِقنا الى حيث الشوك روّى عريَ أقدامِنا. أعِدنا إلى فيء كرمة، حيث هصرنا غصون أحلامنا.
البعض يسمّي المكان مستشفى، وهو أوضع من أن يكون مجرّد عيادة بدائية غير مؤهلة لتوفير ما يحتاجه نزلاؤها من رعاية وإمدادات. وسائدُهم قلق، هواؤهم قلق وأحلامهم قلق، كلُّ واحد منهم موجة ودمعة. مرآة لوطن كسير وحطب لما كان ثورةً وصار ألعاب نار وفقاقيع بانتصارات متخيّلة. يُبكونني ولا يبكون ويعلمونني دومًا: "إذا كان رأس المال عمرك فاحترز/ عليه من الإنفاق في غير واجب".
أقابلهم فتصبح للأشياء معانيَ غيرَ التي يألفها بنو النعيم والكلام والبطر. هنا في هذا المكان كنت أقابل "زهير لبادة" و"أشرف أبو ذريع" من صارا نجمتين في سماء وطن وموتهما جريمة معلّقة في عنق سجانهم إلى أبد الآبدين والزمن. أقفز بخفّة شبح. أصل "غرفتي"، ذلك المكان الضيق كمصران أعور، يغلب طوله عرضه. أجلس كمصاب بنوبة "باسور". أنتظر مجيء سامر العيساوي وجعفر عز الدين وطارق قعدان. للحظة، أدرك أنني أضعت الكلام. أحاول أن أبعد وجه أشرف عن سطح الزجاج الذي أمامي لكنّه لاصق هناك. كان باسمًا، كما في آخر مرّة زرته، ولكن كانت بسمته هذه المرة أقرب للساخرة أو ربما للعتاب. وضعتُ يدي على الزجاج فكان باردًا. بعد تحديق انتبهت أن هذا الزجاج قبيح وأصم فعنه قد رحل وجه أشرف. ثوان، دقائق أو هي ساعات وأنا كالعاشق أتحرّق من لهفة وخوف فالأخبار نقلت أن سامرًا في حالة حرجة وخطر. كعادتي في مثل هذا الضيق حضرني ما أشغل به خاطري وكان القول لحماسي يعظ: "فلا وأبيك ما في العيش خير/ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء". لم أكمل صراخي. مجرورًا على كرسي أدخل السجان، وقد ولد عربيًا، سامرًا وتركه قبالتي وترك هو الغرفة. شاحبًا كليمونة داره في العيساوية، نحيلًا كمصل سيف يماني، شاردًا كأروى الجبال، حاول أن يفي بوعده إلي. باعد شفتيه ليهديني، كما في كل لقاء، بسمة شعرتها تخترق ذلك الزجاج لتستقر في قلبي. طمأنني. فلقد تعلّم من ذلك العائد الى حيفا أن لا قيد باق ولا "خزان" قادر. "حرّيتي هي الثمن وهي الحياة وهي الكفن. لا ترهقوا الناس البسطاء الكادحين معنا ولكن اذكروا "جيراني" في هذه العيادة اللعينة. هم سادة العطاء والتضحيات، هم المرضى المعذبون الذين لا ينامون فأجسادهم خانت بعد حريق أحلامهم. عنهم تحدثوا ومن أجلهم اعملوا، فأنا والمضربون عابرون في هذا الهزيع وهم أبطال الليل والمعاناة والأسى".
طلبت منه فوقف بصعوبة ورفع ملابسه. صعقت. كانت أمامي بقايا من سامر، رفيق درب لزهير وأشرف ... بانَ الشوك في صدره أثرًا من يوم آدم وشاهدًا على زمن الخطايا. في ما كان صدرًا تراقص ذلك العصفور الذي لولا ذلك الزجاج اللعين كاد يطير ويحط في حضني. أخفيتُ خوفي وأفصحتُ عن قلقي. رجوتُه: نريدكَ، يا سامر، على الأكتاف عريسًا. عدنا أن تجيء عريسًا. وعدني وعاد إلى قلب المعركة/العرس.
تركتهم وعدت. تذكّرت أنني لم أخبرهم بما جئت لأخبرهم به. فلقد عدت من زيارة لمصر الشقيقة. هناك عَقَدت جامعة الأشقاء العرب جلسة خاصة ناقش بها مندوبو الدول العربية قضية أسرى فلسطين في سجون الاحتلال الاسرائيلي. (باستثناء سوريا الشقيقة التي جمّد الأشقاء عضويتها إلى أن تثبت أبوّة تصح للقربة والألفة والنسب). وافقت الدول على بياننا الختامي، لكنّهم تعاركوا على الديباجات، وما أدراكم ما الديباجات. "جزائر" تحتج، فكيف يشكر العراق بالتمييز وتغيب جزائر؟ وإن ذكرت جزائر فلمَ الاجحاف بحق تونس؟ وماذا عن المغرب واليمن وإن ننسى فلن ننسى جيبوتي وجزر القمر. تعثر صدور البيان لساعات، إلى أن تعبقرت الصياغة العربية فأرضت صمود جميع الدول الشقيقة ودعمها لأسرى فلسطين.
للحظة فكّرت بالعودة ثانية لأنقل لطارق ولجعفر مختصر ما حصل في ملتقى الجامعة العربية. لم أعد. بجانبي على المقعد ما زالت رسالة "عهر" وشهادة تخيفني وقد تخيف من تركت ورائي. مسكتها وغرقت بما كتبه "القائد العام لقوات جيش الدفاع في يهودا والسامرة" الذي أعلمني أنّه يرفض أن يفرج عن أشرف أبو ذريع قبل شهر واحد من انتهاء محكوميته الكاملة. هذا "القائد الهمام" يرفض طلبًا كنتُ قد تقدمتُ به باسم أشرف وبعد تردي حالته الصحية بشكل خطير جدًا. الموجع المبكي أن "القائد" علّل رفضه الإفراج عن أشرف قبل شهر من تاريخ الإفراج المقرر ليوم 15/11/12 قائلًا بوقاحة "إن من شأن الإفراج عنه أن يشكل خطرًا على سلامة الجمهور وأمن المنطقة".
قرأتُ الرسالة وأشرف بوجهه الضاحك أمامي وأنا أحاول أن أخبئ دمعة. لم يسقط أمامهم. عاد "الخطير" من أسره للوطن، لغرفة العناية المكثفة. أمضى بها شهرين وارتقى بعدها نجمة تضيء سماء فلسطين. سلّم روحه إلى حبيبته ومضى "كالمسك تسحقه الأكفّ فيعبق". فهل من وعدٍ لرفاقِ أشرف؟!
البعض يسمّي المكان مستشفى، وهو أوضع من أن يكون مجرّد عيادة بدائية غير مؤهلة لتوفير ما يحتاجه نزلاؤها من رعاية وإمدادات. وسائدُهم قلق، هواؤهم قلق وأحلامهم قلق، كلُّ واحد منهم موجة ودمعة. مرآة لوطن كسير وحطب لما كان ثورةً وصار ألعاب نار وفقاقيع بانتصارات متخيّلة. يُبكونني ولا يبكون ويعلمونني دومًا: "إذا كان رأس المال عمرك فاحترز/ عليه من الإنفاق في غير واجب".
أقابلهم فتصبح للأشياء معانيَ غيرَ التي يألفها بنو النعيم والكلام والبطر. هنا في هذا المكان كنت أقابل "زهير لبادة" و"أشرف أبو ذريع" من صارا نجمتين في سماء وطن وموتهما جريمة معلّقة في عنق سجانهم إلى أبد الآبدين والزمن. أقفز بخفّة شبح. أصل "غرفتي"، ذلك المكان الضيق كمصران أعور، يغلب طوله عرضه. أجلس كمصاب بنوبة "باسور". أنتظر مجيء سامر العيساوي وجعفر عز الدين وطارق قعدان. للحظة، أدرك أنني أضعت الكلام. أحاول أن أبعد وجه أشرف عن سطح الزجاج الذي أمامي لكنّه لاصق هناك. كان باسمًا، كما في آخر مرّة زرته، ولكن كانت بسمته هذه المرة أقرب للساخرة أو ربما للعتاب. وضعتُ يدي على الزجاج فكان باردًا. بعد تحديق انتبهت أن هذا الزجاج قبيح وأصم فعنه قد رحل وجه أشرف. ثوان، دقائق أو هي ساعات وأنا كالعاشق أتحرّق من لهفة وخوف فالأخبار نقلت أن سامرًا في حالة حرجة وخطر. كعادتي في مثل هذا الضيق حضرني ما أشغل به خاطري وكان القول لحماسي يعظ: "فلا وأبيك ما في العيش خير/ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء". لم أكمل صراخي. مجرورًا على كرسي أدخل السجان، وقد ولد عربيًا، سامرًا وتركه قبالتي وترك هو الغرفة. شاحبًا كليمونة داره في العيساوية، نحيلًا كمصل سيف يماني، شاردًا كأروى الجبال، حاول أن يفي بوعده إلي. باعد شفتيه ليهديني، كما في كل لقاء، بسمة شعرتها تخترق ذلك الزجاج لتستقر في قلبي. طمأنني. فلقد تعلّم من ذلك العائد الى حيفا أن لا قيد باق ولا "خزان" قادر. "حرّيتي هي الثمن وهي الحياة وهي الكفن. لا ترهقوا الناس البسطاء الكادحين معنا ولكن اذكروا "جيراني" في هذه العيادة اللعينة. هم سادة العطاء والتضحيات، هم المرضى المعذبون الذين لا ينامون فأجسادهم خانت بعد حريق أحلامهم. عنهم تحدثوا ومن أجلهم اعملوا، فأنا والمضربون عابرون في هذا الهزيع وهم أبطال الليل والمعاناة والأسى".
طلبت منه فوقف بصعوبة ورفع ملابسه. صعقت. كانت أمامي بقايا من سامر، رفيق درب لزهير وأشرف ... بانَ الشوك في صدره أثرًا من يوم آدم وشاهدًا على زمن الخطايا. في ما كان صدرًا تراقص ذلك العصفور الذي لولا ذلك الزجاج اللعين كاد يطير ويحط في حضني. أخفيتُ خوفي وأفصحتُ عن قلقي. رجوتُه: نريدكَ، يا سامر، على الأكتاف عريسًا. عدنا أن تجيء عريسًا. وعدني وعاد إلى قلب المعركة/العرس.
تركتهم وعدت. تذكّرت أنني لم أخبرهم بما جئت لأخبرهم به. فلقد عدت من زيارة لمصر الشقيقة. هناك عَقَدت جامعة الأشقاء العرب جلسة خاصة ناقش بها مندوبو الدول العربية قضية أسرى فلسطين في سجون الاحتلال الاسرائيلي. (باستثناء سوريا الشقيقة التي جمّد الأشقاء عضويتها إلى أن تثبت أبوّة تصح للقربة والألفة والنسب). وافقت الدول على بياننا الختامي، لكنّهم تعاركوا على الديباجات، وما أدراكم ما الديباجات. "جزائر" تحتج، فكيف يشكر العراق بالتمييز وتغيب جزائر؟ وإن ذكرت جزائر فلمَ الاجحاف بحق تونس؟ وماذا عن المغرب واليمن وإن ننسى فلن ننسى جيبوتي وجزر القمر. تعثر صدور البيان لساعات، إلى أن تعبقرت الصياغة العربية فأرضت صمود جميع الدول الشقيقة ودعمها لأسرى فلسطين.
للحظة فكّرت بالعودة ثانية لأنقل لطارق ولجعفر مختصر ما حصل في ملتقى الجامعة العربية. لم أعد. بجانبي على المقعد ما زالت رسالة "عهر" وشهادة تخيفني وقد تخيف من تركت ورائي. مسكتها وغرقت بما كتبه "القائد العام لقوات جيش الدفاع في يهودا والسامرة" الذي أعلمني أنّه يرفض أن يفرج عن أشرف أبو ذريع قبل شهر واحد من انتهاء محكوميته الكاملة. هذا "القائد الهمام" يرفض طلبًا كنتُ قد تقدمتُ به باسم أشرف وبعد تردي حالته الصحية بشكل خطير جدًا. الموجع المبكي أن "القائد" علّل رفضه الإفراج عن أشرف قبل شهر من تاريخ الإفراج المقرر ليوم 15/11/12 قائلًا بوقاحة "إن من شأن الإفراج عنه أن يشكل خطرًا على سلامة الجمهور وأمن المنطقة".
قرأتُ الرسالة وأشرف بوجهه الضاحك أمامي وأنا أحاول أن أخبئ دمعة. لم يسقط أمامهم. عاد "الخطير" من أسره للوطن، لغرفة العناية المكثفة. أمضى بها شهرين وارتقى بعدها نجمة تضيء سماء فلسطين. سلّم روحه إلى حبيبته ومضى "كالمسك تسحقه الأكفّ فيعبق". فهل من وعدٍ لرفاقِ أشرف؟!
0 comments:
إرسال تعليق