لفت أحد الأصدقاء نظري مع حلول شهر رمضان المبارك أن أعيد قراءة كتاب (إسلام بلا مذاهب) لمؤلفه المرحوم الدكتور مصطفى الشكعة ذلك الكتاب الذي كنا قرأناه خلال فترة الدراسة الجامعية في ستينات القرن الماضي والذي لاقى ترحيباً كبيراً وانتشاراً واسعاً آنذاك في كل الأقطار العربية، وبمراجعة سريعة لما تتضمنه مكتبتي وجدته والغبار يغطيه، لا أريد أن أنقل ما يحتويه هذا الكتاب القيم من معلومات عن تاريخ الطوائف والمذاهب المنصوص عنها بأقلام المراجع الدينية المختلفة، بل ما يكشف عنه من حروب المذاهب البغيضة وكيف ضاعت الأندلس وكيف تعمقت الخلافات بين المسلمين عبر التاريخ وكيف يستفيد أعداء الأمة من الفرق المتفرقة باسم الإسلام من أبناء الوطن الواحد، وكيف يتخذ أعداء الأمة من بعض تلك الفرق أشخاص ضعيفي النفوس ويغرونهم بالآمال والوعود الكاذبة، وكيف يستعملونهم كمعاول لهدم صرح الإسلام من أجل السيطرة ضمن سياسة "فرق تسد"، وفي النهاية يدعو المؤلف إلى وحدة الكلمة وتوحيد الصف لمقاومة الصهيونية والاستعمار. وقد توفي الدكتور مصطفى الشكعة في العام 2011 دون أن يرى ما وصلت إليه أحوال المسلمين من تشرذم بحيث أصبحت الفرقة فرق.
وفي توطئة الكتاب للشيخ المرحوم محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر (1893 - 1963) يقول: "لقد فهم المسلمون الأوائل روح هذا الدين الحنيف واختلفوا في فهم نص من كتاب الله أو سنة رسول الله، ولكنهم - مع هذا الخلاف - كانوا متحدين في المبادىء والغايات، لم يكفر بعضهم بعضاً، بل كانوا يداً واحدة على من عداهم. ثم خلف من بعدهم من خلف جعلوا دينهم لأهوائهم، فتفرقت الأمة إلى شيع وأحزاب ومذاهب وعصبيات، واستباح بعضهم دماء بعض، وكان بأسهم بينهم شديداً، فطمع فيهم من كان لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فذهبت ريحهم وتجرأ عليهم أعداؤهم وانتقصوا بلادهم من أطرافها، كل هذا ودعاة الفرقة سادرون في غيِّهم ماضون في طريقهم لا يدفعهم إلى هذا الطريق الشائك إلا أحد أمرين: إما الجهل بمبادىء الإسلام الصحيح أو الكيد لهذا الدين الحنيف، لقى الإسلام على يد هؤلاء وأولئك ما لقي من نكبات ومصائب".
ولقد استغل المستعمرون أسباب الفرقة بين المسلمين أسوأ استغلال، فراحوا يبعثون من قبور التاريخ أسباب العداوة والبغضاء، وينفخون في نار قد خمد أوارها وانطفأ لهيبها، لأن أكثر هذه الأسباب قد أصبحت غير ذات موضوع، كل هذا لتبقى لهم الكلمة النافذة في بلاد الإسلام التي حباها الله بخيرات لا تكاد توجد في غيرها من بلاد الله.
فمع إطلالة شهر رمضان المبارك ندعو إلى تنقية المذاهب من الشوائب التي أثارتها العصبيات والنعرات الطائفية وأذكتها العقلية الشعوبية.
إنها دعوة لعبادة الله وأن لا يتخذ البعض أرباباً من دونه، لأن الله لم يكلف أحداً بالإنابة عنه في الأرض كما يفعل ملالي قم وطهران، الذين يطرحون تأويلات بعيدة عن النصوص الشرعية من كتاب الله حتى أن البعض منهم لا يعترف بالقرآن المحفوظ ولا بالسنة النبوية الصحيحة، وهذه إحدى المصائب الكبرى التي تشوه مفهوم الإسلام الصحيح، لذلك علينا ألا نجعل من الدين تبعاً للأهواء، بل علينا أن نحارب احتكار فرد أو أفراد تعاليم الدين، وأن نفهم الدين كما فهمه المعاصرون للتنزيل، وألا نجعل من الإسلام دين أسرار وأحاجي ومعاني باطنية، فالدين الإسلامي أسمى من ذلك، وهو نزل بلغة عربية واضحة المعاني لا تحتاج إلى تأويلات.
ويوضح الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه عن مفهوم المساواة بين المسلمين وبين غير المسلمين فيقول "ثمة عنصر هام في المساواة في الإسلام لا ينبغي أن نمر عليه مر السحاب، بل ينبغي أن نقف عنده طويلاً، لأنه ينم عن أصالة في مبدأ المساواة في الإسلام والعدالة الشاملة التي لا يأتيها الظلم من بين يديها ولا من خلفها، ذلك العنصر الهام هو عنصر المساواة بين المسلمين وغير المسلمين مساواة تامة، والعيش معهم في سلام ووئام، والحفاظ على جوارهم، والمحافظة على أموالهم وأعراضهم وحرماتهم ومقدساتهم، ينتظم هذا المبدأ في قوله تعالى: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة الآية 8)".
ويضيف: "وليس التشريع في ذلك آية مكتوبة في كتاب الله وحسب، بل إن ذلك نزل إلى ميدان التطبيق العملي، فقصة ابن عمرو بن العاص مع المصري القبطي معروفة حين اعتدى ولد لعمرو بن العاص إبان حكمه مصر على أحد المصريين فهدده القبطي بشكايته لأمير المؤمنين، فلم يأبه ابن عمرو لذلك وقال: أنا ابن الأكرمين، فلما كان موسم الحج - وقد ذهب عمرو وابنه إلى مكة - كان القبطي في إثرهما، ودخل إلى الخليفة وعنده عمرو وولده، فشكا إليه ما قد وقع عليه، وأعاد على سمع أمير المؤمنين كلمة ابن الأكرمين، فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً، ونظر إلى عمرو قائلاً جملته الخالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" ثم ناول الشاكي سوطاً وقال له: اضرب ابن الأكرمين كما ضربك."
ويقول: "ومن تقديس الإسلام للمساواة بين المسلم وغير المسلم أن كان يقف الصحابي الجليل على قدم المساواة في مقام الشكوى مع غير المسلم حتى يقضي لأحدهما، ومن القصص الجليلة تلك التي ذهب فيها يهودي إلى عمر يشكو علي بن أبي طالب لأمر من الأمور، فلما مثل علي أمام الخليفة لاحظ أن الخليفة يخاطبه بكنيته بقوله: يا أبا الحسن، فاكتسى وجه علي بمسحة من الغضب، فقال عمر: أكرهت أن يكون خصمك يهودي وأن تمثل معه أمام القضاء على قدم المساواة؟ فأجاب علي: لا، ولكنني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه بل فضلتني عليه إذ خاطبته باسمه وخاطبتني بكنيتي. وهكذا يأبى علي وهو المشكو منه إلا أن يحافظ على روح المساواة في موقف القضاء، فلا يرضى أن يخاطبه أمير المؤمنين بكنيته، لأن فيها معنى التوقير والتقريب، لكي يطمئن اليهودي إلى أن الحكم الذي سيصدره الخليفة سيكون خالياً من الهوى".
ويذكر الشكعة في كتابه: من مساواة غير المسلمين بالمسلمين كانت مطلقة حتى في الصدقات حينما وجد عمر ذمياً مسناً يسأل الناس ويتسول في الطريق فظهر عليه الأسف وأمر له بمرتب دائم من بيت المال وقال: "ما أنصفناك إذ أخذنا منك الجزية وأنت شاب وتركناك تتسول وأنت شيخ".
هكذا كان الدين الإسلامي الحنيف فأين المتأسلمين اليوم من هذه المساواة المطلقة بين المواطنين في الوطن الواحد؟ أين أولئك الذين يشوهون مفهوم الدين الحنيف في سوريا في اليمن وفي الصومال وفي مالي وفي العراق وفي مصر وفي ماليزيا وفي السودان وباكستان وأفغانستان وفي بلدان الخليج العربي وفي إيران وفي كل أصقاع الدنيا حيث يوجد مسلمون؟
فالإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي الإيمان بالله إلهاً واحداً خالقاً للكون لا شريك له، وبمحمد (ص) رسولاً منه إلى كافة الناس، والإيمان بالأنبياء والرسل جميعاً وباليوم الآخر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
والإسلام لسماحته واتساع أفقه لم يقف من الأديان السماوية السابقة له وقفة تحد ونكران أو جحود، لأنه دين سماوي من عند الله الذي أرسل الرسل وأنزل الشرائع السابقة له، فعقيدة الإسلام شقيقة للعقائد السماوية السابقة، وكلها تدعو إلى الخير وتنهي عن الفحشاء والمنكر، والإسلام جاء ليستكمل ما يحتاجه تقدم الزمن من تطور في الفكرة الأزلية ملائماً للزمان الذي أنزل فيه والأزمان اللاحقة به، وقد جمعت الآية الكريمة هذه المعاني في قوله تعالى في سورة البقرة: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (285).
هذا هو الإسلام الذي لا يدخل الناس إلى حوزته قهراً أو قسراً حيث يقول تعالى في سورة النحل: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (125).
ويقول في سورة البقرة ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي)) (256).
هذا من حيث الدعوة الموجهة إلى العامة، فإذا ما كان الأمر متعلقاً بأهل الكتاب طلب الإسلام من المؤمنين زيادة التلطف ومزيداً من إظهار المودة وحسن المجادلة ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) (سورة العنكبوت 46).
أما شريعة الإسلام فهي ما قد اشتملت عليه من معاملات وربط علاقات الناس بعضهم ببعض، ونظام الأسرة والمواريث والوصية والمحارم والزواج وحقوق الوالدين.
هذا الإسلام الذي يشوه روحه ومضمونه مجموعات من المارقين الجدد باسم الإسلام والإسلام منهم براء، أمثال دواعش العصر و"النصرة"، وما يسمى بـ"حزب الله" في لبنان وفي العراق وفي الخليج العربي، وكافة أتباع ملالي قم وطهران في العراق، وفي لبنان، وفي اليمن، وفي السودان، وفي سوريا وغيرهم من البلدان العربية وغير العربية، إضافة إلى معظم المتدثرين بعباءة رجل الدين بكافة ألوانهم ومذاهبهم، الذين يدمرون ويقتلون ويفتون باسم الله وباسم الدين، هؤلاء الذين يتلاعبون بتفسير وشرح كلام الله ويؤولونه بحسب أهوائهم، فأين هم من روح الدين وجوهره الذي جاء لتحقيق العدل والمساواة بين البشر ومن أجل تحقيق إنسانية الإنسان، وأين هؤلاء جميعاً من الإسلام الذي مصدره واحد؟! وأين هم من الخلفاء الراشدون وأوائل المسلمون في عصر الرسول العربي الكريم؟!
وأخيراً إن لم يقم العقلاء من أبناء الأمة والشرفاء من المؤمنين من رجال الدين تحديداً الغيورين على الدين الإسلامي الحنيف، وبصورة عامة الذين يدعون أنهم قوميون ووطنيون، بإعادة نظر شاملة لمجريات الأمور في البلدان العربية في كل ما يجري فيها من انتشار للطائفية والمذهبية البغيضة التي نشرت الحقد والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، إذ عليهم يتوقف مصير الجيل الحالي والأجيال القادمة من خلال بث ونشر روح العروبة التي وجوهرها الإسلام، كي تعود للإنسان إنسانيته في أمة مزقتها الأحقاد والضغائن والأنانية منذ حادثة (سقيفة قس بن ساعدة) وصولاً إلى موقعتي (الجمل) و(صفين) التي توقف عندها زمن دواعش العصر الحديث من كل المذاهب مما زاد من تفرقة الأمة إلى فرقاً وشيعاً، بسبب كرسي الحكم أو ما يسمونه الخلافة والإمارة، تماماً كما حدث في الأندلس بين ملوك الطوائف.
وكل رمضان والجميع بخير
28/6/2014
0 comments:
إرسال تعليق