مصر العظيمة تحتاج إلى جنرال يحكمها بالديموقراطية/ صالح خريسات

شعب مصر لم يكن حرا في اختياره الرئيس الجديد..!

قبل الشروع بالكتابة في هذا الموضوع، كنت أسأل نفسي :
هل تسمح الظروف السياسية الراهنة، وعلاقات الدول العربية بعضها ببعض، بتناول القضايا والمسائل الهامة، حتى نهاياتها المنطقية؟ هل نجرؤ على اتخاذ مواقف نقدية صريحة، تجاه هذه الانتخابات التي جرت للمرة الأولى في تاريخ مصر، والمنطقة العربية؟ أم علينا أن نتقبلها بكل ما فيها من أخطاء، كونها التجربة الأولى في هذا المجال؟ ولكن ما نسبة هذه الأخطاء، أو حجمها؟وكيف نسامح أنفسنا بها وندعي أنها تنطق بالحقيقة؟!
وينبغي التنويه، إلى أن انتهاج هذا الموقف، لا يقلل من أهمية هذه الانتخابات، لكنه يدعونا إلى إعادة تأهيلها، بما يجعلها قادرة على النفاذ إلى واقعنا القائم، واستخدامها لفهمه وتفسيره.
إنني أعتقد أن هذه الحرية في الانتخاب، تسمح بولادة علم خاص، وثقافة معاصرة، ولكن ليس قبل بحثها وتعليلها، وهذا يعني وجوب عدم تبني، ما يظهر على السطح من وقائع، ومحاولة الولوج بعيدا في الأعماق، لاستكشاف العوامل الحقيقية الفاعلة فيها. وأنا أقصد هنا، حالة الفرح الشعبي العفوي العام، الذي عبر بها الشعب المصري، عن تواضع بعيد في المعرفة بمتطلبات الحكم والرئاسة. ولتوضيح هذه الصورة، دعونا نستعير مقولة نيتشه في هذا المجال : " إن قيمة جميع الحالات المرضية، تكمن فيما تظهره عبر عدسة مكبرة، من شروط وظروف، من الصعب رؤيتها في الحالة الطبيعية، مع أنها شروط وظروف عادية " فدعونا نسلط عدسة مكبرة، لنعرف ما إذا كان هذا الشعب، قد أخطأ في اختياره، أو أنه لم يستوعب العملية الديمقراطية كاملة، حيث وجد نفسه فيها.
إن الظاهرة الانتخابية، التي هي في حد ذاتها من معالم الديمقراطية، تأخذ سياقها انطلاقا من أن الحرية هي أساس الديمقراطية، أي أن يستطيع المواطن، الإدلاء برأيه في كل القضايا التي تهم مصيره، وأن يختار رئيسه بكل حرية، وبعيدا عن كل الضغوط المادية، والمعنوية، والنفسية . فهل توافرت مثل هذه الأجواء لشعب مصر العظيم، في الانتخابات الرئاسية؟هل نستطيع أن نقرر، بأن شعب مصر العظيم، اختار رئيسه الجديد، بوعي سياسي كامل، وحرية تامة، دون أن يتعرض للتأثيرات الجانبية، والضغوط النفسية، وقضايا مثل الكفر والإيمان؟
إنني أعتقد بأن شعب مصر، لم يكن حرا في اختياره الرئيس الجديد. هذا ما أستطيع أن أقرره الآن. فقد كان يعيش فوضى فكرية، تغذيها الشائعات حول التجربة السابقة في الحكم، التي أفسدتها العقود الثلاثة الطويلة، وما رافقها من صور الفساد، ومظاهر الاستبداد، والوضع العربي المضطرب، وضغوطات الاعتصام الطويل في ميدان التحرير، والمصادمات الدموية المتكررة، مع رجال الأمن، إلى جانب ضغط الإعلام المعادي للنظام القديم، وترقبات المجتمع الدولي، كل ذلك، خلق حالة من اللاوعي، دفعت شعب مصر في اتجاه الإصرار على تغيير النظام، استجابة للظروف الطارئة، بصرف النظر عن طبيعة النظام القادم، وما يمكن أن يقدمه لهذا الشعب العظيم. فهل أخطأ هذا الشعب في اختياره الرئيس الجديد؟ وهل سيعود وجدانه مرة أخرى، ليمتص كل تعاسات الدنيا؟
إن منصب رئيس الجمهورية منصب سياسي، ولا يجوز أن يتقلده رجل عادي. والنظام الديمقراطي، يفترض أن الشعب يمتلك وعيا تاما، يؤهله لتقرير مصيره، واختيار أفضل رجل أو امرأة، لتولي القيادة . إن معرفة الأفكار، والأشخاص، والحوادث المتغيرة في التاريخ، توفر اطمئنانا أكثر مما يزعم أولئك الذين لا يمنحون قيمة إلا للجانب الديني. فالدين مفيد للأخلاق، ولكن السياسة أمر مختلف. فهي مقصورة على رجال السياسة، الذين يظهر أنهم يزاولونها بضرب من القوة الطبيعية، ويعالجونها بالتجربة أكثر مما يعالجونها بالتدبر. إن مصر العظيمة، تحتاج إلى جنرال وليس رجل ديني أو أكاديمي.
إن التاريخ البشري، في القرن الخامس قبل الميلاد، ينبئنا أن شعب أثينا، أختار الجنرال بركليس ثلاثين مرة، على الرغم من تنازله طواعية في كل مرة، لرجل دين، ومفكر سياسي. وثق به شعبه، فاختاروه عاما بعد عام، لثلاثين سنة، ولكنهم لم يعطوه أبدا، حتى من بعد تجربة، الحكم مدى الحياة. لماذا اختاروه ثلاثين مرة؟ لأنه كان رجلا غير عادي، وكان واحدا "جنرالا" من بين عشرة، ساس أمورهم في الداخل، وساسها في الخارج. أعطوه الثقة، فأعطاهم الخير كله، من جهد، ومن نفس، ومن قلب. ولم يكن رجل دين. واتهمه من اتهمه بالسرف فقال : إن كان سرفا فقد أنفقته في سبيل خير الفرد، وفي رفع أثينا إلى المجد . هذا ما صنعه هذا الراعي الديمقراطي، الذي كانت تنتخبه كل عام رعيته الديمقراطية.
إن للتجربة فائدة كبرى . وإلا لما صاروا بعادة الحكم الطويلة، رجال سياسة ماهرين في الحكم. ومصر العظيمة تحتاج إلى رجل تجربة، في السياسة، والحرب. والفريق أحمد شفيق، هو من يصلح لقيادة الشعب المصري في هذه المرحلة. فقد استطاع أن يضيف العمل إلى النظرية. وفي كل جنس، أهل التجربة الخاصة، هم الذين يحسنون الحكم على الأشياء، والذين يفهمون بأي الوسائل وكيف يصل الإنسان إلى إنتاجها، كما أنهم يعلمون أيضا تراكيبها ونظمها الخفية. وهذا أيضا ما نجده في الفريق أحمد شفيق.
إن العملية الديمقراطية، وحرية الاختيار، بعيدا عن أي تأثيرات دينية أو عقائدية، ترفع من شأن الدولة في مقاييس التقدم والرقي العالمي. إن الدول الكبيرة، تتباهى في نزاهة العملية الديمقراطية، وعدم التدخل في إرادة الشعب وحريته. وتدرك هذه الأمم أن التخلف عن الناس في التاريخ، غالبا ما يحدث جراء سوء استعمالهم لحرية الاختيار. ونجد في دساتير هذه الأمم، أن التاريخ العام ما هو إلا تقدم الشعور بالحرية، وذلك أن الإنسان بممارسته لحرية الاختيار، يشعر بوجوده الروحي.
ويبدو أن هذه الفرضيات لم تتحقق للشعب المصري، وقد خسرت مصر هذه الفضيلة، ولم يتدخل المجتمع الدولي، لأنه يريدها أن تبقى معزولة وحبيسة لمفاهيمها الدينية الضيقة، وبعيدة عن الديمقراطية الحقيقية. وهذا ما حدث في انتخابات الرئاسة، فقد استغل جماعة الإخوان المسلمين، الناحية الدينية لتغيير إرادة الجماهير، وتحويل أنظارهم عن المنافس الآخر للدكتور محمد مرسي، مما جعل العملية الديمقراطية غير مكتملة، وغير نزيهة، ولا تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية.
إن من يطيع القانون، سواء كان يساريا أو يمينيا، هو وحده حر، وليس صاحب الاتجاه الديني. ونأمل أن لا يكون شعب مصر العظيم، قد انخدع بالظاهرة الدينية، فالمجتمع والدولة تشتملان على الشروط لتحقيق الحرية، بعيدا عن أي تأثير ديني، بدليل أن شعوب أوروبا وأمريكا، تعيش بطريقة أفضل، وأن عصور الخلافة الإسلامية، المرتكزة على الجانب الديني فقط، فشلت في إنشاء الدولة الإسلامية، ولم تظهر تلك الدولة إلا في عهد الملك معاوية، بعد أن حولها إلى دولة مدنية .
إن النظرية الديمقراطية، في المجتمعات النامية، تقر بوجود نمطين من الناخبين. النمط الأول، وهو الناخب الأسير، والنمط الثاني، وهو الناخب الطليق . فأما الناخب الأسير، فهو الذي يعوزه الوعي السياسي، فكان أسيرا لبعض الأعراف الاجتماعية، كالولاء العشائري، أو الجغرافي، أو الديني، والانتماء الجهوي، والمصاهرة، أو المصلحة النفعية .وإما الناخب الطليق، فهو الذي يتمتع بوعي سياسي، وبعد نظر يجعله يحتكم إلى عقله، في اختيار رئيس البلاد، أو من يمثله.
لقد نشط أئمة المساجد، وشيوخ الدين، ورجال الدعوة، عبر الشاشات الفضائية، والندوات، ومن خلال المطبوعات الدينية، بالدعوة إلى الرئيس الجديد. وسمعنا من يعلن صراحة تكفير منافس الرئيس المنتخب. لقد أصبح كل شيء غامضا جدا، إلى حد أن رجال الدين، يزعمون أنهم أفضل من جميع الديمقراطيين، وأكفأ من الجنرالات في الحكم وإدارة شؤون البلاد، وهذا خطأ فظيع. فالحرية السياسية، هي اضمن وسيلة، لكي تتمتع الأمم والشعوب بحريتها المدنية .
إنني أتصور، لو أن ممارسة حرية الانتخاب، لاختيار الرئيس، اقتصرت على مدن مصر الكبرى، كالقاهرة، والإسكندرية، وغيرهما، والتي نعتقد أنها مهيأة علميا، واجتماعيا، وسياسيا، لاختيار الرئيس بطريقة ديمقراطية، لكانت النتيجة غير ما ظهر لنا الآن.
ولا ندري كم عدد الأصوات التي حصل عليها السيد الرئيس المنتخب، في المدن الكبرى المتعلمة، مقارنة مع غيره من المتنافسين.ولكن إذا افترضنا أن الرئيس حصل في هذه المدن على نسبة أقل من غيره من المتنافسين، ثم جاءت أصوات الريف ورعاة البقر، ليقرروا بأنه هو رئيس مصر الكبرى، أنا أعتقد أن في ذلك ظلم كبير لمصر وللمصريين. فيجب أن تكون أصوات المتعلمين، هي التي تقرر من هو رئيس الجمهورية. لأنه لو كان عندنا مئة مليون رأس بقر يحق لها الانتخاب، ومليون مفكر عظيم من البشر، لكانت النتيجة ما يقرره البقر .
فالديمقراطية ليست عملية إحصائية، كما أنها ليست ديمقراطية الإنسان العادي، هذا الإنسان يجب إن يضاف إليه شيء أخر، يكون لديه رأي يرتقي به إلى مفهوم المصلحة العامة. الديمقراطية ديمقراطية الأب، وهي تحتاج إلى تربية خاصة، والى وعي سياسي لتكوين الرأي السليم. مجال الحرية في الوعي الديمقراطي، يسمح دائما بإعادة تصويب الرأي، لذلك يجب أن تسبق العملية الديمقراطية، توعية سياسية شاملة، في كل مناحي الحياة. إننا يجب إن لا نغفل عن قدر كبير من التخلف والبدائية على صعيد المعارف والثقافة حيث كان وما يزال للخرافات قوة كبيرة، في توجيه سلوك الكثير من البشر، ولا يمكن للمرء إلا إن يبتسم بمرارة، عندما نعدد الممارسات الخاطئة، على الرغم من ذلك القدر من الحماس والحب، الذي تتسم به كتاباتنا عن مصر وحضارتها العظيمة. إننا حين نتحدث عن هذه التجربة، فإن القول يتجه إلى تواضع مستوى التفكير، في الوسط المؤثر بين الجمهور المتلقي، سواء كانوا متعلمين أو معلمين.
إننا إذا استبعدنا النساء، والأطفال، والشبان الصغار، على أساس إن هناك تطابقا طبيعيا في المصلحة مع الأزواج والإباء، واستبعدنا فئات أخرى تجهل العملية الديمقراطية. كانت النتيجة في العملية الإحصائية مختلفة تماما.
أما الاعتقاد السائد، بأن هذه العملية الديمقراطية، يجب أن تكون كاملة في كل الأرض المصرية، أسوة بما يحدث في أوروبا، وأمريكا، فإننا نرد على هذا الادعاء، بأن شعب مصر، في الصعيد، وفي الريف، وفي القرى المنسية، ليس بمستوى شعوب أوروبا وأمريكا، ولا تجوز المقارنة بأي حال من الأحوال. فهؤلاء يعيشون مأساتهم في صمت، خلف جدران التخلف الحضاري المدمر، والعادات البالية، والتقاليد غير الديمقراطية، في التربية والسلوك والحياة. ومن هنا اتسمت حياتهم بالقدرة على التحمل، والصبر الطويل، واتسم سلوكهم بالتخبط والعشوائية، ونلحظ ذلك بالنكات والفنون المسرحية، التي تسجل حياة سكان صعيد مصر والريف. فهل يصلح هؤلاء ليقرروا من هو رئيس جمهورية مصر الكبرى؟
لقد أحس شعب مصر، أن انفجاراً حقيقياً في مختلف أرجاء حياتهم قد حدث، ولكنهم باستثناء المتنورين منهم، يفتشون عبثاً عن تفسير لما يحدث، فلا يجدون حلاً سوى الصمت، أو الكلام القليل، الذي يومئ بشيء، ويخفي أشياء، أو الكلام الكثير الذي لا يقول أي شيء، تماما كما هو حال الصعيدي الذي عبر عن فرحته بفوز الرئيس الجديد المنتخب، فأرسل الخفر ليجمعوا جواميس بلدته، فذبحها ابتهاجا بهذا الفوز العظيم. فلما أفاق الناس في اليوم التالي، بكوا على جواميسهم، وكانت أيام الرئيس المخلوع موجودة!!.
إن الخطأ كل الخطأ، أن نتجاوز الواقع، ونقفز إلى البحث عن الشكل، وإسقاطه على مجتمعاتنا، دون الغوص في المضمون، ووعي العلاقة الجدلية في الديمقراطية شكلا ومضمونا. فالديمقراطية الحقيقية، لا ترتجل، ولا تكون بإصدار المراسيم، أو تعدد الأحزاب، بل هي مسيرة طويلة، تتأصل بالممارسة، والتجارب السياسية، التي تمر بها الشعوب، فلا تتأثر بالعواطف، لأنها في جوهرها تتعلق بالشعب، وليس بطبعه أو هواه.
إنني أجد أن الفريق أحمد شفيق، وعلى الرغم من إعلان النتيجة رسميا، واعترافه بالهزيمة، هو الفائز في انتخابات الرئاسة في مصر. إن تراجع أصواته كان بسبب وجوده في دائرة النظام السابق، المغضوب عليه من الجماهير، وليس طعنا في قدراته.

CONVERSATION

0 comments: