دمقرطة السياسة العمومية/ زهير الخويلدي

"توجد الديمقراطية حينما يكون الشعب في الجمهورية جسدا واحدا مع السلطة الحاكمة "[1]
من المتعارف عليه أن السياسة في المعنى الواسع تفيد سمة الحياة المشتركة بين مجموعة من الناس تنظمهم قواعد وقوانين. أما المعنى الاصطلاحي للسياسة فيشير الى الدولة والحكومة وما يتم بذله من جهود في سبيل تصريف الشأن العام بالتعارض مع الظواهر الاقتصادية والمسائل الاجتماعية سواء تعلق الأمر بالعدالة والادارة أو بالأنشطة المدنية للحياة مثل التعليم والثقافة والبحث العلمي والدفاع الوطني.
ان السياسة الجيدة هي التنظيم العقلاني للعلاقات بين الأفراد وتحييد العنف وتفادي النزاعات.وتتماهى العقلانية السياسية مع الدولة الديمقراطية التي هي نظام سياسي تنتمي من خلاله السيادة مجموع المواطنين أي الى الشعب. على هذا النحو تشير السياسة الى التدبير والتنظيم ولكنها أيضا التدخل في الشأن العام وهي ليست حكرا على رجال الحكم والدولة وناشطي الأحزاب والسياسيين بل هي أمر يهم جميع الناس وينبغي أن يعتني به الكل ولذلك كان مفهوم المشاركة هو أحسن تعبير عن مطلب تحويل السياسة الى ممارسة عمومية. ويمكن التمييز بين السياسة الفاسدة التي تلنمى على الاستبداد والسياسة الصالحة والشرعية التي ابنى على التشاور والايمان بالحرية والتعددية والديمقراطية. ولكن ماهي التغيرات التي حصلت على الفكرة الديمقراطية؟
من المعلوم أن الديمقراطية هي نظام سياسي واجتماعي يكون فيها الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يجعل المجتمع يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه. ويمكن أن نميز بين الديمقراطية على نطاق ضيق وتعني دمقرطة الحياة الأسرية أو الجماعة الدينية والديمقراطية على نطاق واسع وتعني دمقرطة المجتمع والمعمورة.
يمكن تحديد خصائص الحكم الديمقراطي بأنه منتخب من قبل الشعب عن طريق انتخابات عامة ونزيهة وشفافة ودورية وتمارس فيه الأغلبية المنتخبة السلطة وفق ما ينص عليه الدستور، ويجب أن تكون هذه الأغلبية صادرة عن فئات الشعب المختلفة وتمثل جماعة سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة وليست جماعة عرقية أو إثنية أو دينية. علاوة على ذلك ينبغي أن تصان حقوق المعارضة عبر مؤسسات وقوانين وأن يتم ضمان الحريات العامة للمجتمع، وخاصة منها حرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة.
في الواقع تعرضت فكرة الديمقراطية الى تغييرات عميقة من جهة تعريفها ووجودها الاجتماعي والقيم التي تنادي بها، فهي لم تعد حكم الشعب نفسه بنفسه بل أصبحت تعني الحكم الراشد. كما أنها تجسدت في جملة من المؤسسات وتحولت الى ثقافة وعقلية. بينما المعايير تجاوزت الأغلبية نحو الأقلية وتعدت الخيارات الشعبية نحو حماية الحقوق الشخصية. لكن هل الديمقراطية هي حكم الأغلبية أم حماية الأقليات ؟ و ماهي الأسس التي يقوم عليها النظام الديمقراطي؟ وكيف تتم عملية الدمقرطة للسياسة العمومية؟
والحق أن الديمقراطية تتمتع بقوة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية وتمثل أرضية خصبة لكي يعي الناس مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم وتحقيق مصيرهم. كما تجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنين وتقوي قناعة المواطنين لتفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكام بها وترفع الخوف عن قلوب الناس بسبب وعيهم بحقوقهم ومراقبتهم للحكام وترسخ كرامة الناس وتنمي استقلاليتهم ونضوج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي. زد على ذلك انها توجد توازنا بين الحكومة والمعارضة وتفسح مجالا واسعا للجميع للنقاش الحر والاتجاه إلى العقل لإقناع الآخر ، وتفتح آفاقا جديدة للإبداع في كثير من المجالات لإيجاد حلول أكثر ملاءمة وتدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي.
كما تعطي الدولة الديمقراطية الناس فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وليساهموا بالحياة العامة عن طريق العمل السياسي والمدني وعن طريق وسائل النشر والاتصالات الحديثة المتاحة في المجتمع وتعمل على ايجاد توجد آلية واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية وتجعل من الشعب في نفس الوقت حاكما ومحكوما وتضمن التوليف بين السيادة والمواطنة.
إن وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة بينهم يتوقف على الحد من اعتباطية سلطة الحاكم عن طريق مؤسسات رقابة دائمة وآليات للدفاع عن المواطنين و ضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وترسيخ مبدأ التكامل الوظيفي بينها وتمييز المسؤوليات وتوزيعها باستقلالية تامة. زد على ذلك يجب ترسيخ مبدأ الدستورية، أي أن السلطات تستمد مشروعيتها من مرجعية قانونية عليا والمواطنين يحترمون الدستور ويرجعون إلى القضاء لحل الخلافات .
يمكن أن نذكر من بين الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي هو مبدأ السيادة للشعبية واستمداد الشرعية من رضا معظم المحكومين وموافقتهم وتطبيق حكم الأغلبية وعن طريق الاجماع مع الاعتراف بالاختلاف والتعددية وحقوق الأقليات.
هناك أسس أخرى ترتكز عليها الدولة الديمقراطية، مثل ضمان حقوق الإنسان الأساسية، وتنظيم الانتخابات الحرة العادلة والمساواة أمام القانون وايمان المجموعة الوطنية بالتداول السلمي للسلطة وبفصل السلطات الثلاثة ، وتمتع للأفراد والجماعات بممارسة حقوقهم السياسية من خلال المشاركة الفعالة في صناعة القرار والتأثير في الرأي العام.
تجمع الديمقراطية بين حكم الأغلبية وحماية الأقليات عبر العدالة والمساواة وبالتالي فهي تمنع اعتداء الأغلبية على الأقليات وتحمي الأغلبية من تسلط الأقليات عن طريق القوة أو المال أو الدرجة الاجتماعية. كما يمكن الربط بين السيادة والمواطنة وجعلها تمثل السيادة الشعبية وتعبر عن الارادة العامة وتحترم حقوق المواطن.
لكن ماهي حقوق المواطن التي يجب أن يتمع بها والواجبات التي يسأل عنها ؟
ينبغي التمييز بين المواطن الذي ينتمي الى المدينة ويحتكر لنفسه صفات المدنية والمواطنة بماهي منظومة من القيم والمعايير وتمثل صلة قانونية بين الفرد والدولة. ويتمتع المواطن بجملة من الحقوق مثل ممارسة السيادة والمشاركة السياسية والتمتع بالحريات ولكنه علاوة على ذلك مطالب بأداء جملة من الواجبات والمسؤوليات وهي تكريس الديمقراطية في حياته وفي مجتمعه وممارسة النقد والرقابة على الشرعية.
هذه المبادئ يجب أن تعلن في دستور ديمقراطي يعتبر بمثابة توافق بين المواطنين وتتم مناقشته بشكل علني وبحرية كاملة مع شروحات كافية، ويتم إقراره من قبل مجلس تأسيسي منتخب من طرف الشعب، ويلزم أيضا أن يعرض نص الدستور علي الاستفتاء العام وتتم الموافقة عليه بالأغلبية لكي يتم اعتماده كمرجعية شرعية للدولة الديمقراطية.
هكذا يكون الانتقال من الاستبداد الى الثورة هو الانتقال من الظلم الى الحرية ومن الشمولية الى الديمقراطية الانجماجية، ويتمثل الرهان النظري للسياسة العمومية الصالحة في تفادي الوقوع في الوهم والكذب والعمل على اتباع الحق والتسلح بالوعي، ويكمن الرهان العملي في تفادي الفساد والعبودية التي نخرت المجتمع والعمل على تحقيق الكرامة للأفراد والسيادة للشعب. لكن ماهي المنزلة التي تحتلها الحرية في النظام الديمقراطي؟ ألم يقل مونتسكيو في كتابه البديع:" ان الحرية هي حق الانسان في أن يفعل ما تأمره به الشرائع"؟
المرجع:
مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية، القاهرة، 1953.
[1] مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية، القاهرة، 1953.

CONVERSATION

0 comments: