يوميات هدى العاصفة 1و2و3/ فراس حج محمد


الهُدَيات هنا جمع "هدى"، وهن كثيرات؛ أولهن هدى شعراوي وما أحدثته من عواصف فكرية فيما يتعلق بالمرأة! وهناك "الست هدى" مسرحية للشاعر أحمد شوقي، عرض فيها "هدى" امرأة متصابية، تعصف بكل القيم!
كما وتتدعى إلى الذاكرة الروائية "هدى بركات" صاحبة رواية "ملكوت هذه الأرض"، ومعارك جوائز البوكر العربية، والصراع المحموم في عواصف التأييد والمعارضة، والممثلة المصرية "هدى سلطان" ودورها زوجة لـ "سي سيد" في ثلاثية نجيب محفوظ "قصر الشوق" و"بين القصرين" و"السكرية"، لتعيد إلى الذاكرة تلك العواصف الهوجاء حول دور المرأة العربية قديما وحديثا، وأشياء أخر!
ولن تغيب عن البال "هدى غالية" تلك الطفلة التي استشهد أهلها جميعا على رمال حي الشاطي، إثر عاصفة إسرائيلية صاروخية مجنونة قبل سنوات، وقد هبت دافئة كثيرا! وصاحبتها الريح والزمهير والعراء، والحصار الأليم، لتستدعي "هدى" كل من قتلوا قبلها أو بعدها، وتقفز هذه "البنت الصرخة" في قصيدة محمود درويش لتصير "هي الصرخة الأبدية في خبر عاجلٍ"، كأنها "أثر فراشة" حطت ولم تطر!
كذلك تأتي "هدى" أخرى في مسرحية عادل إمام "الود سيد الشغال" التي أثارت جنون زوجها بعواصفها فطلقها عدة مرات لتعصف بكرامة الأسرة الأستقراطية، ويضطرون ليزوجوها الشغال ليحللها لزوجها المعصوف به، فعصف "الود سيّد" بالجميع، لأنه يحب "هدى"، كيف لا يحبها وهي العاصفة الأنثوية الجامحة؟!
والآن العاصفة الثلجية المسماة "هدى"، التي عصفت في الناس شرقا وغربا، وهيجت المشاعر والأقلام وعجائب الصور والكلام، وجاءت محملة بالبرد والثلج والمطر، لتعصف بكل شيء، فعصفت بالمرأة أكثر من عواصف هدى شعراوي، وتصابت وتدلعت أكثر من الست العجوز المتصابية "الست هدى" الشوقية، وجاءت ومعها كل الوعيد بالأهوال أفظع مما حدث مع "هدى" الاستقراطية المرفهة، وقد أصبحت امرأة الشغال سيد ورفض أن يتخلى عنها، وظل يخاطبها "بتحبيني يا هدى".
حضرت "هدى" ليكبر معها الحنين غامضا من مستقبل يأتي إلينا على استحياء، ربما ما زال مضرجا بدماء "هدى غالية" وأمنيات "هدى بركات" وتطلعات "هدى سلطان" في خلاصها من "سي سيد"!
ولا تنسوا الآن أن "هدى العاصفة"- ككل الهدايات- أصيلة وبنت أصول أتتكم من مناطق بعيدة، وهي غريبة دار ووطن، فلا تزعجوها، وإن غيرت حياتكم وأتتكم بما كنتم تستعدون له! ويجب أن تكرموا هذه "الهدى"، فهي زائرة "لطيفة" و"خفيفة دم"، وعليكم أن تظهروا معها الكرم العربي الأصيل، أكرموها بالنكت والهذيان، والتسالي والسهرات على ضوء الشمع، وتذكروا اللمات الاجتماعية، وقد تعطلت التكنولوجيا بكل أنحائها، ولتقبلوا على الاستغابات فهي شهية ليلا، ولْتستعدوا نهارا لتلعبوا بمخلفات "هدى" البيضاء!
فكل "هدى" وأنتم وأنتن بألف ألف دفء وخير وبركة!
**
اليوم الثاني للعاصفة (7-1-2015)

يبدو أن "الست هدى" لم تكن عاصفة، كما كان يتخوف منها القوم، ويتحدونها بثياب سميكة وصوبات مشتعلة وأجساد مرصوصة، ويتوعدونها بالنوم العميق، جاءت هدى ناعمة طرية وخفيفة دم، ثلجها ناعم وبردها غير عنيف، جاءت كما لم تأت عاصفة ثلجية من قبل، فكانت (بردا وسلاما) على الكهرباء وشبكات الإنترت، ولكن الفضائيات غابت كليا، فقد تحقق فيها القول (إذا حضرت هدى غابت الفضائيات)، ليس على اعتبار أن هدى ملاكٌ أبيض طاهر نازل من السماء كعمود نور، والفضائيات شياطين أنس وجان وحسب، ولكن لتعطي الفضائيات فرصة للناس ليقفوا خلف النوافذ فيتأملوا نعومة الثلج، وليلتقطوا الصور لهذا الزائر الأبيض، وما يحيط به.
وربما امتدت الصور لتكون نوعا من المزاح، فتصل إلى منزل (جارة) ما فتحظى بصورة من بعيد، ولكن لم يظهر ما كان ينبغي أن يظهر من ألوان فسفورية، فقد غطى الثلج كل لون وكان الأزهى والأجمل، وربما عاد الأصدقاء إلى ذكرياتهم، فبدأوا ينشرون صورهم القديمة مع الثلج استعدادا لذلك المشهد المرتقب بعد أن يتراكم طبقات، لتبدأ فصول أخرى من يوميات "هدى"!
تركت لنا الست هدى الأوضاع هادئة، فقد أحسنت تقدير الأوضاع الاقتصادية والسياسية فلم تكن هي والحكام والمحتلون والدكتاتوريون علينا، بل كانت أرحم من حكومات تتحكم بمصائر الشعوب، وتتلاعب بالأسعار تلاعبا مضحكا غبيا، وأشد رأفة من محتل جبان عصري بامتياز لا يعرف من الإنسانية شيئا مطلقا، يخنق شعبا كاملا، ليس في غزة وحسب، بل أيضا في المناطق التابعة لجمهورية رام الله المستقلة، حيث لا رواتب إلى الآن. 
كانت "هدى" أسمح وألطف من كل ذلك الغثاء الذي يحاصرنا في كل مكان، تساهم في صنعه دكتاتوريات لا تعرف إلا الارتواء من دماء المقهورين، ونظام عالمي مجرم، يهندس الموت في كل لحظة وفي كل بقعة من هذا العالم، لا توقفه هدى ولا غير هدى، فعواصفه مجنونة مع سابق إصرار وترصد!
جاءت هدى اللطيفة الفاتنة، عروس الأشجار والأسحار والربى، عروس متألقة البريق تختال فرحة وهي أشد إنسانية من بعض بني الإنسان، وأكثر دفئا من حضن امرأة لم يعد يتسلل الحنان إلى أطفالها، فقد شمّعها الهباء، وشدت في السعي وراء أشكال من الغباء، تتقافز من هناك إلى هناك، لا تبحث إلا عن ضياعها في هذا الرحب العنيف!
جاءت هدى وهي تحرص على رسم القدر بتأن ورحابة صدر، فهي مأمورة ومأسورة، ولكنها بكل تأكيد ليست مقهورة، إني أراها تنظر إليّ من بين أضواء الشاشة تبتسم ابتسامتها الظريفة المليئة حبا ولطفا، امرأة قلبت بحكمتها ذلك السيل الجارف من التعليقات والتغريدات الإلكترونية إلى مادة أدبية ظريفة، فنجحت في أن تترك بصمتها في هذا الكون بأنعم طريقة ووظفت قوتها الناعمة المهيبة لتعشش في الوعي والذات والأسفار. 
إنها هدى! ونعم العاصفة اللطيفة هي، فامكثي فينا ما شئت من وقت، وليفض حنانك فينا دفئا أبيض يقتل ما تحجر في أرواحنا من لهيب الحروب وحقد القلوب!! فأهلا وسهلا ومرحبا أيتها اللطيفة الرئيفة "هدى"!
**
اليوم الثالث (8-1-2015)

هل كانت "هدي العاصفة" قاتلة؟ هل هي من شردت الأطفال وأبعدتهم عن ديارهم وأسكنتهم في الخيام؟ هل كانت وحيا شريرا وشيطانا عربيدا ليعلق الناس عليها تلك الجرائم البشعة؟ هل كانت "هدى" قاتلة أطفال بردا وتشردا؟
إني أرى "هدى العاصفة" ترعد وتزبد وترفع صوتها بالنحيب على ما صنع اللئام بأطفال كرام، كيف يلاقي هؤلاء البريئون ما لاقوا من مرارة الحرمان في مخيماتهم، بعد أن تمسك الدكتاتوريون بكرسي الحكم، ولم يحترموا رغبة شعوبهم بأن صلاحيتهم قد انتهت؟!
إنني أرى "هدى" باكية واجمة؛ فكيف كان الموت على هؤلاء الأطفال جرئيا، فيصطاد منهم تلك الياسمينة الشامية الحمصية "هبة"، تلك التي قتلها الإهمال وأحرقتها تحت برد الثلج سياسة عقيمة، تفرق بين شآمي ولبناني وفلسطيني وعراقي، فضلا عن أنها لا تفرق بين فرنسي وأمريكي وأفريقي، كما تفرق بين شمالي وجنوبي، شرقي وغربي! إنها سياسة التقوقع والتحوصل في حواصل اليباس، لتكون الضحية طفلة بل أطفالا يتزاحمون على كفّ الموت، ولن تجد من يقول لهم: "كفى ازدحاما على كفيّ واتزنوا".
فكأننا مع كل عاصفة على موعد مع مصيبة تهز المشاعر والأفئدة، فقد كانت ضحية العام الماضي الكاتب "محمد بنيس" الذي وجد متجمدا من البرد في أحد شوارع القاهرة، غدا كان الضحية أديبا واليوم طفلة بريئة، والمسلسل لا ينتهي، وسيكتفي المرفهون بالاستمتاع كثيرا، وسيتألمون قليلا، لكنهم سيمضون سريعا إلى شأن تافه أشد لفتا لانتباهاتهم من أطفال وأدباء ماتوا في ظل العواصف الصماء المسيّرة!
ستزداد "هدى العاصفة" غضبا عليكم، إنها لتنذركم نذيرها، إنها تزمجر، تريد أن تقلع عليكم جدرانكم، وتطفى تلك النيران التي تقيكم بأسكم، وتغرق مناماتكم بالهواجس والصقيع والريح، ستأتيكم مجنونة جبارة، تنهال عليكم بالشواظ والزمهير، فلا تستثني من "أبناء القحبة" أحدا!
إني أرى "هدى العاصفة" متحسرة حزينة، يجتاحها ألم ووجع على تلك الضحايا التي وضعها المجانين المستغلون في طريقها، فماذا عليهم لو أعدوا لهؤلاء اللاجئين العدة والعتاد، فلم ينسوا "شعب الخيام"، وأكرمت نزل الأدباء والمثقفين وكفتهم شر التشرد؟ وماذا عليهم لو فكروا في هذا الجو العاصف بقوت أسراب الحمام، القابع تحت ظل خيمة لم تعد إلا ركاما في الصقيع والبرد الصفيق!
لا تلوموا "هدى العاصفة" ولوموا حكاما خسروا إنسانيتهم، وتركوا إخوانا لهم في عراء الموت نهبا للرياح، لا تلوموا من تشرد ليلاقي الرحمة ويبحث عنها فلم يجدها، فصار كمن استجار من الرمضاء فلفحته النار وأحرقته البراكين القاسية.
كفوا ألسنتكم عن استغابة "هدى العاصفة" وشدوا الهمة وتوجهوا نحو تلك القصور القاصرة عن نصرتكم فحطموها وهشموا زجاجات خمرتها وأطفئوا نيرانا تقتل أطفالكم، فاليوم كانت "هبة"، فلربما تكون طفلتي أو طفلتكم غدا أو بعد غد، فماذا تنتظرون؟ لا مجال للتقاعس فهيا، ولا تركنوا للعابثين بالأرواح والمصير، وكونوا النار وأحرقوا أرواحهم كما حرقوا أرواحنا بمهجات نفوسنا وأفلاذ قلوبنا، ولتزرعوا الربيع الجديد، مكان هذا البرد القارس، ربيعا تشرق فيه الشمس وترحل عنه الغيوم السوداء، ويعم الدفء الذي يحرك دماء النشاط والحيوية في العروق وفي نبض الحياة.
ولتتذكروا أن "هدى العاصفة" بريئة براءة تامة من كل أذى يصيبنا:      
فَهِي الطبيعة لا تـلامُ  *** والشؤم يــفعله اللئامُ
هم من سيدمي روحنا *** فطقوسهم أبدا ظلامُ
**

CONVERSATION

0 comments: