سقوط نهج العسكرة في الحراك الشعبي/ صبحي غندور

هل كان بعض قوى المعارضة السورية بحاجةٍ إلى أكثر من سنتين من الزمن ليدرك أن خيار عسكرة الحراك الشعبي السوري كان قراراً خاطئاً ومسهّلاً لدخول أطراف عديدة على هذا الحراك لحرفه إلى مسارات لا تتوافق مع مصالح الشعب السوري؟! فهانحن الآن نسمع ونقرأ تصريحاتٍ لأسماء محسوبة على المعارضة السورية تشير إلى المأزق الذي هي فيه حالياً بعد التفاهم الأميركي – الروسي بشأن الأزمة السورية وبعد دخول واشنطن في مفاوضاتٍ مباشرة مع طهران.
ويتّضح من هذه التصريحات حجم الإحباط السياسي السائد وسط الجماعات التي راهنت على الجمع بين "عسكرة" الحراك الشعبي وبين الدعوة للتدخّل العسكري الأجنبي في سوريا، فإذا بالعسكرة تؤدّي إلى حجمٍ كبير من الخسائر الشعبية والمادية بسبب تحوّل الأمر من مظاهرات شعبية تقمعها السلطات الأمنية السورية، إلى حربٍ أهلية تُستخدَم فيها كل أنواع الأسلحة من جهة، وإلى أيضاً ، من جهةٍ أخرى، جعل الأراضي السورية الخاضعة لهيمنة المعارضة المسلّحة مرتعاً لقوًى إرهابية ومتطرّفة جاء عناصرها من أكثر من 60 دولة باعتراف عدّة مراجع أممية  وإعلامية. 
ثمّ هل كانت هذه الأطراف المعارضة في سوريا تعتقد أنّها قادرة فعلاً على الحسم العسكري بمفردها ضدّ النظام الحالي في سوريا، أم أنّ مراهنتها الأساسية كانت على تدخّل عسكري ممّن شجّعها على "العسكرة" أصلاً، وهاهي سوريا الوطن والمؤسسات والشعب معاً ضحية هذه القرارات الخاطئة، فسلبية النتائج لم تقتصر على الحكم والمعارضة فقط. 
إنّ مأزق المعارضة المسلّحة السورية الآن ليس محصوراً بالعجز عن التقدّم العسكري في الأراضي السورية فحسب، ولا أيضاً بالخلافات العميقة الجارية بين القوى الإقليمية والدولية التي دعمت "عسكرة" الحراك الشعبي السوري فقط، لكن جوهر المأزق يكمن في الجديد من مواقف واشنطن التي كانت تريد من التشجيع على إشعال الحرب الداخلية في سوريا توظيف ذلك لتحجيم النفوذ الروسي فيها واستبداله بهيمنة "حلف الناتو" على بلدٍ مجاور لبلدان مهمّة جداً للمصالح الأميركية (تركيا، الأردن، لبنان، العراق وإسرائيل). أيضاً، سوريا هي حليف قوي لإيران التي كانت واشنطن تريد إضعافها من خلال إنهاك حليفها السوري ثمّ التأثير السلبي لذلك على قوى المقاومة التي تدعمها إيران في لبنان وفلسطين. أمّا الجديد في مواقف واشنطن حالياً، فلا ينسجم مع هذه السياسات التي اعتُمِدت في السابق حيث التفاهمات مع موسكو هي أولويّة تحرص الآن عليها السياسة الأميركية، وحيث المفاوضات مع إيران تستوجب مناخاتٍ إيجابية في المنطقة ممّا يتطلّب، في السياسة الأميركية الجديدة تجاه موسكو وطهران، السعي لوقف الصراعات المسلّحة في سوريا، وسيعني ذلك حتماً سقوط أسلوب "العسكرة" بعدما سقطت أيضاً كل المراهنات على التدخّل العسكري لحلف "الناتو" في سوريا.
وفي هذه السياسة الأميركية الجديدة تجاه الأزمة السورية، نجد أطرافاً إقليمية عديدة غير مرتاحة لما قد تسفر عنه هذه السياسة من نتائج على مستوى المنطقة، لكن حتماً الطرف الإسرائيلي هو الأكثر تضرّراً من وقف النزاعات المسلحة في سوريا ومن التفاهمات الأميركية مع روسيا وإيران. فالمراهنات الإسرائيلية كانت، وما تزال، على حروب أهلية عربية وعلى تفتيت سوريا وكيانات المنطقة كلها، وعلى مواجهات عسكرية بين الغرب وإيران، ليس من أجل إضعاف خصمٍ لها فقط، بل لتغيير خرائط في المنطقة وإقامة دويلات طائفية وإثنية، ولتعزيز حاجة أميركا والغرب لإسرائيل بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية والأهلية من تهميش للحقوق الفلسطينية ومن تصعيد في حركة الاستيطان ومن تفاعلات عديدة لصالح إسرائيل ولأمدٍ طويل!. 
أيضاً، كانت سياسة "حلف الناتو" ترى أنّ إضعاف إيران وروسيا ممكنٌ في منطقة "الشرق الأوسط" من خلال المراهنة على نتائج "الثورات العربية"، وما تفرزه هذه "الثورات" في بعض البلدان من وصول جماعات سياسية دينية منسّقة حالياً مع واشنطن، ومتباينة مع إيران وموسكو وبعيدة عن سياساتهما القديمة والحديثة، لكن هذه الآمال سقطت أيضاً بسقوط حكم "جماعة الأخوان" في مصر وبتعثّر تجارب أخرى.
هناك قناعة دولية الآن بعدم إمكانية حسم الأمور عسكرياً على الأرض السورية لصالح هذا الطرف أو ذاك، وهناك ارتفاع دولي مشترك لمنسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ممّا يحدث على الأرض السورية، إن كان لجهة زيادة دور وعدد الجماعات الدينية المتطرّفة، والمحسوبة اسمياً على "جماعات القاعدة"، أو أيضاً لمحاذير امتداد الصراعات المسلّحة إلى دول مجاورة لسوريا.
أيضاً، يشهد العالم إصراراً روسيّاً/صينيّاً على صياغة نظام دولي جديد يقوم على الشراكة لا على التبعيّة للموقف الأميركي، نظام تعدّدية الأقطاب الذي سينهي حقبة القطب الأميركي الأوحد. وكيفيّة معالجة الأزمة السورية ستكون هي التي تصنع هذا التحوّل الدولي القادم.
ولقد أصبحت إيران هي "اللاعب" الإقليمي الذي تتمحور عليه وحوله قضايا عديدة في المنطقة تشمل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، إضافةً إلى مصير العلاقات مع دول الخليج العربي وتأثيراتها على أمن هذه الدول وعلى النفط والاقتصاد العالمي.  
اذن، مشروع التسوية السياسية للأزمة السورية هو الآن بصيص نورٍ خافت في نفقٍ عربيٍّ مظلم، وستكون هذه المهمّة الصعبة في حال نجاحها بدايةً لتسوياتٍ إقليمية عديدة في المنطقة، ولاجماً كبيراً لأفكار وممارسات تفتيتيّة لشعوب ودول المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لكن البديل عنها، في حال فشلها، هو مزيدٌ من الدّم والدّمار، ومن اتّساع رقعة الصراعات، ومن استنزاف للثروات العربية، ومن تهجير لمزيدٍ من مئات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء الذين هم الآن ضحايا لسوء أوضاع أوطانهم ولصراعات القوى الإقليمة والدولية على هذه الأوطان ومواقعها وثرواتها.
إنّ الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدةٍ وطنية شعبية، وعلى ترسيخ الولاء الوطني، وعلى الهويّة العربية، وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، وعلى "رفض العنف والطائفية والتدخّل الأجنبي"، هي البديل المطلوب للحالة العربية الفاسدة والعفنة، ولا يجوز أن تكون الصراعات الأهلية والتقسيمات الجغرافية والتدويل الأجنبي هي البديل. إنّ أبرز ما يعيق التحوّل نحو الديمقراطية السليمة هو أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب الطائفي والمذهبي والإثني، وهذه الأمراض وحدها تشكّل الآن خطراً على الحراك الشعبي العربي الكبير، فكيف سيكون المستقبل، إذا ما أُضيف إلى ذلك أيضاً، خطر مشاريع الفتنة والتقسيم والتدويل لعموم بلدان المنطقة؟!
إنّ ممارسات بعض قوى المعارضة العربية التي وصلت للحكم لم تختلف عن أساليب الحكام السابقين. كذلك فإنّ ما حدث في ليبيا، وما يحدث الآن في سوريا، يضع علامات استفهامٍ كبيرة حول المصلحة الوطنية العربية في دور الخارج بصناعة التغيير المحلّي المنشود.
هي مراهنة خطيرة جداً في المجتمعات العربية أن يحدث التغيير بواسطة التحرّك الشعبي المسلّح لأنّ نتيجته حروباً أهلية وتفتيت كيانات لا إسقاط أنظمة فقط. ألم تتعلّم الأمَّة العربية بعد على مدار نصف قرنٍ من الزمن من دروس تجارب لبنان في نهاية الخمسينات ثمّ اليمن في مطلع الستينات ثمّ لبنان من جديد في منتصف السبعينات ثمّ الجزائر في مطلع التسعينات ثمّ السودان والعراق والصومال وليبيا، ثمّ سوريا الآن..؟!. كذلك هي مراهنة خاطئة أيضاً ومميتة أحياناً عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعاتٍ من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي (مهما كان مصدره) يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح في أيِّ مكان بتحقيق مجتمعاتٍ موحّدة مستقرّة.
إنّ واقع الحال العربي اليوم يتطلّب فعلاً إصلاحاتٍ لأنظمة وحكومات، لكن يحتاج هذا الواقع أيضاً إلى حركاتٍ إصلاحية وتصحيحية داخل قوى المعارضة العربية نفسها التي تقود الآن الحراك الشعبي العربي.
ولعلّه من المهمّ كثيراً في هذه المرحلة الفرز في الشعارات وفي القوى المنادية بها. فهل الهدف هو إسقاط أنظمة معينة فقط، أم هو تحقيق غايات الإصلاح والتغيير الجدّي المنشود في عموم المنطقة العربية؟ فالضمانة ليست بتغيير أشخاصٍ هنا وحكّامٍ هناك، بل هي تكون في تنفيذ مضامين الإصلاح المنشود، إذ ما الفارق بين الانقلابات العسكرية التي أوصلت بعض الحكّام للحكم وبين من ينقلبون اليوم عليها بفعل عنفٍ مسلح مدعومٍ عسكرياً من الخارج، وربّما يمارسون مستقبلاً ما مارسته هذه الحكومات من أساليب؟! 
هناك الآن من يتحدّث عن مسؤولية الحكومات فقط في تدهور الأوضاع كلّها، وهناك بالمقابل من يتحدّث فقط عن مسؤولية القوى الخارجية، بينما في حقيقة الأمر الكلّ مسؤولٌ عن الكل، ومن يعفي نفسه من المسؤولية هو غير جدير أصلاً بتحمّل مسؤولية قيادة حكم أو معارضة.
لكن في غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أضحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخّل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح في الفلك الإسرائيلي.
لا خلاف في البلاد العربية على أهمّية وضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي.. لكن الخلاف هو على الوسائل الممكنة لتحقيقه. فالإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى ضغوط سياسية وشعبية تراكمية وتكاملية لا إلى عملية انقلابية ضدّ أشخاص فقط.. ووسيلته الناجعة هي الحركة السلمية المتواصلة مهما كانت درجة عنف السلطات، فأسلوب القوّة والعنف المسلح، من قبل الحاكمين أو المحكومين، وبوجود مشاريع إقليمية ودولية مستفيدة منه أو متصارعة حوله، سيكون هو شرارة إشعال الأوطان التي قد تصل بها إلى الحروب الأهلية المدمّرة للجميع.

*مدير "مركز الحوار العربي"
Sobhi@alhewar.com

CONVERSATION

0 comments: