الثورة الفرنسيـــة.. والثـورات العربيــــة/ صبحة بغورة

يقول المؤرخون أن التاريخ يعيد نفسه ، بمعنى انه يمكن أن نشاهد أحداثا هامة و مصيرية تتكرر في البلد الواحد أو أن نراها على نحو مدهش من التشابه في بلدان أخرى لا تتقاسم نفس اللغة ولا تدين لنفس الديانة وتوجد جغرافيا في مناطق متباعدة عن بعضها وتقع خلال عصور مختلفة ، على أنه تنطوي على معنى يعيد نفسه الكثير من التحفظات بشأن أبطال الأحداث وبما يتعلق بالمسببات و ظروف تطور هذه الأحداث التي ولاشك سترتبط أشد الارتباط بالمستوى الحضاري لهذا البلد أو ذاك ودرجة ما بلغه من تطور سياسي و اقتصادي و اجتماعي ..
ليس لعلماء الاجتماع نفس الرأي فهم يعتقدون أنه من الصعب أن يتقبل أي شعب دعوة خوض تجربة أخرى تكون بنفس مرارة الأولى خاصة إذا شكلت الآثار المترتبة عنها جروحا عميقة و لم تندمل بعد، فالذاكرة الجماعية ستظل تحتفظ لفترة قد تطول أو تقصر بصورأليمة لبشاعة ما جرى وسيعاني من خسائر المرحلة بشريا وماديا وحينها سيكون الإشفاق كبيرا من تكرار نفس سيناريو الأحداث مرة أخرى.
عندما بدأت أحداث الثورة الفرنسية في 14 يوليو 1789 ضد سلطان الكنيسة الطاغي وهيمنة رجال الدين على شؤون البلاد و العباد تم اعتبارها نقطة تحول فارقة ليس في تاريخ فرنسا وحدها بل في تاريخ أوروبا ، لقد عكست الثورة حينها نهاية صبر شعب على المجاعة و البؤس حيث أدرك أن سبب محنته هو الفساد السياسي الذي أدى إلى التدهور الاقتصادي وقيام الحكومة بإرهاق الشعب بضرائب فادحة جديدة في حين بقت طبقتان تتقلبان في كل ألوان النعيم وهما طبقة رجال الدين و طبقة الأشراف بالإضافة إلى الأسرة المالكة ، لذلك كان منطقيا أن تكون شعارات الثورة هي " الحريـــة ، الإخاء ، المســاواة " ، كان استمرار إحكام قبضة الكنيسة على كل مناحي الحياة عائقا حقيقيا أمام بروز رغبة ملحة من أجل تقدم المجتمع تزامنت مع بزوغ عصر النهضة لذلك كان مطلب الحرية يعني فيما يعنيه حرية إطلاق المبادرات بعطاء العلم قيمته في حياة الشعوب و التحرر من القيود الدينية المصطنعة وبنظرة متأملة للثورات العربية في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا .. يبدو واضحا من طبيعة الشعارات المرفوعة المطالب المتعلقة بالحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية التي تعني مباشرة إرادة التخلص من نظم سياسية احتكرت السلطة طويلا فاستبدت وكبرت أطماعها في الاستئثار بموارد الثروة وغلق النشاط الاقتصادي على فئة محدودة تقاسمت خيرات البلاد من اجل مصالحها الخاصة ولو على حساب المصلحة العامة مما أدى إلى إفقار الشعوب وتدهور قدرتها الشرائية وتحميلها نتائج السياسات الاقتصادية الخاطئة ، إذن منطلقات الثورات العربية تكاد تتشابه من حيث الحرية والعدل في اقتسام الثروات .
عرفت الثورة الفرنسية مسلسلا رهيبا من القتل الجماعي والتسارع البربري لإسالة الدماء وكافة ألوان العنف و البطش وقد استحدث خلالها تعبير " حكم الإرهاب " خاصة في الفترة الأخيرة من شهور الثورة حيث غاب فيها المنطق ، وهو تعبير يعني موجة عاتية من العنف و القتل للقضاء الفوري على النبلاء ورجال الدين واعتقال و إعدام أي شخص يتهم بالعمل ضد الثورة ، إنها فوضى القتل التي شملت القضاء على الملك لويس السادس عشر و زوجته النمساوية الحسناء ماري أنطوانيت وترك ولدهما يموت في السجن وهو صبي دون الثانية عشر ، أما بالنسبة للثورات العربية فقد عرفت مراحل من العنف سقط خلالها العشرات من الضحايا المدنيين و رجال الأمن بالإضافة إلى الخسائر ذات الطابع الانتقامي لبعض المؤسسات و المنشآت الحزبية و المدنية التي لا يكن لها الشعب أي احترام ولكنها تفاوتت من حيث شدة وطأتها ومدتها فمنها من دامت بضعة أيام كما في تونس و مصر وانتهت بإسقاط النظام ، ومنها ما طال عدة شهور من المواجهات العنيفة المسلحة كما جرى في اليمن ، وكان أعنفها على الإطلاق في الحالة الليبية التي أسقطت النظام بعد فصول من القتل المتبادل في المدن و الأحياء والتدخل العسكري المباشر لقوات الناتو مع الانتشار غير المحسوب للسلاح في الأوساط الشعبية جعل أمر حسم الثورة وعودة الأمن من الآمال الصعبة المنال في القريب العاجل ، وتبقى الثورة السورية صامدة أمام قمع السلطات و تشبث القيادة بالبقاء في السلطة ، إذن أنها نفس المظاهر الدموية في الحالتين الفرنسية و العربية مع الاختلاف في الأسلوب والعدة و السلاح ، وقد يكون وجه الاختلاف بينهما أن الثورات العربية قد شهدت ما يمكن أن يعد من قبيل العنف المضاد فالمفارقة أن الزعماء العرب لم يكونوا مرفوضين من كل شعوبهم بل أن فئات واسعة من مؤيديهم نهضت لدعمهم و الدفاع عنهم ولكن صوت الرافضين لاستمرارهم كان الأعلى والأقوى .
إن النتائج التي حققتها الثورة الفرنسية كانت طفرة في تاريخ الشعوب التواقة إلى العيش بكرامة فقد تركزت في تأكيد مبادئ حقوق الانسان وحق الشعوب في الحرية و المساواة ، والاعتراف بالحق في تكوين الجمعيات السياسية و الإقرار بحرية الرأي و التعبير والحق في العيش بأمن و سلام ، وضرورة استناد الحكم على الأمة و الفصل بين السلطات و وضع دستور للبلاد بالاضافة إلى توحيد اللغة الفرنسية و القانون ، وكما يبدو أن سقف المطالب كان منخفضا جدا بالنسبة لمستوى الوعي السياسي في الوقت الراهن ولكنه كان في عصره قفزة عملاقة في الفكر السياسي الإنساني ، وبالنسبة للواقع العربي فلا يخلو أي من دساتير الدول العربية من ذات المطالب التي رفعتها الثورة الفرنسية و لكن تطبيقها شابه العجز و التقصير والمراوغة تحت مبررات بعضها سقطت موضوعيتها منذ زمن وبعضها يخضع لمسوغات شديدة التعسف من أجل أهداف ملتها الشعوب العربية كمقتضيات الأمن القومي ومتطلبات مواجهة أعداء الشعب في الداخل و الخارج ... إن وجه الاستفادة الممكنة من نتائج الثورة الفرنسية تكمن في وجوب قيام الأنظمة العربية بالمعالجات السريعة و دون إبطاء لمواقع الخلل في النشاطات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية من منطلق وطني يراعي المصلحة الوطنية قبل مصلحة الأشخاص وهذا لن يتأتى إلا في ظل سلطة تشريعية منتخبة حرة تتمتع بصلاحيتي التشريع والمراقبة ، وتنفيذية نزيهة تعكس تطلعات الشعب في العيش بكرامة ، وقضائية مستقلة يحقق لها دستور دائم الاستقرار والحماية و الاستقلالية إلى جانب ضرورة الفصل بين هذه السلطات وتحديد صلاحياتها بدقة .
لقد أطاحت الثورة الفرنسية بالملك لويس السادس عشر و بسلطة الكنيسة بشكل دراماتيكي بشع ، لا يمكن مقارنة مصير الزعماء العرب الذين أسقطتهم شعوبهم عن السلطة به فالرئيس التونسي زين العابدين بن على قرر الفرار سرا إلى المملكة العربية السعودية وهو يعلم أن أقصى ما كان يمكن أن يواجهه بشجاعة هي محاكمته ، في حين آثر الرئيس المصري محمد حسني مبارك إعلان التخلي عن رئاسة الجمهورية وتكليف مجلس أعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد ولم يعفه هذا الموقف الذي يحسب له ولا عليه كونه حرص على عدم إراقة دماء أبناء الشعب الواحد من المثول أمام القضاء إلى جانب ولديه جمال و علاء و وزير الداخلية حبيب العدلي وستة لواءات من كبار ضباط وزارة الداخلية لمحاكمتهم في قضايا تتعلق بقتل المتظاهرين وبالفساد المالي و استغلال النفوذ من أجل التربح ، أما مصير العقيد ألقذافي قائد الثورة الليبية فكان الأكثر مأساوية حيث فقد بعض من أبنائه في المواجهات العنيفة بين كتائبه المسلحة و الثوار المعارضين قبل أن يسقط نظامه ويقع هو في يد الثوار المسلحين ليغتال في مشاهد بدت للكثيرين من خصومه غير انسانية تماما، بينما تركت آثار الحروق و الإصابات البليغة التي التعرض لها الرئيس اليمني على عبد الله صالح بعد قصف المعارضين المسلحين المسجد الرئاسي خلال تواجده فيه ثم نقله على عجل للعلاج في المملكة العربية السعودية قناعة بأن المعارضة قد اتجهت فعلا للنيل من حياته بعد فشل الاحتجاجات الشعبية الحاشدة في الضغط عليه للرحيل عن النظام لينتهي به المقام الى التخلي عن السلطة ومغادرة البلاد .
لقد عرفت فرنسا بعد نجاح الثورة أعمال قتل وعنف جنوني حتى انه ابتكر أحد الفرنسيين آلة المقصلة كمظهر على ما بلغته روح حكم الإرهاب فيها ، وفي مناخ الحرية يصبح المرادف لها لدى الشعوب غير الناضجة سياسيا واجتماعيا هي الفوضى وانفلات الشارع واختلال الأمن ، وفي المجتمعات التي انتشر السلاح فيها على نطاق واسع تصبح الخشية من الإفراط في أعمال القتل بدعوى الانتقام و تصفية الحسابات هي الهاجس اليومي الحقيقي لذا تكون الضرورة ملحة في سرعة جمع الأسلحة من المواطنين متزامنة مع جهد إعلامي و تربوي واسع النطاق حول مفاهيم الانتماء وواجبات و حقوق المواطنة و وحدة الشعب وذلك من اجل صرف اهتمام الرأي العام إلى القضايا الكبرى و الترفع عن الصغائر وحشد الجهود الوطنية لمواجهة التحديات المنتظرة التي يمكن بحق اعتبارها من قبيل التهديدات لمستقبل شعب ومصير أمة بكاملها .
من أبرز نتائج الثورة الفرنسية أنها جاءت بظلم آخر يتمثل في رفع شأن الإقطاعيين وظهور طبقة أصحاب الممتلكات الخاصة كما جاءت بظلم الرأسماليين ، وهو درس يمكن الاستفادة منه في حالة الثورات العربية مع الاختلاف في طبيعة الطبقات الاجتماعية ، فواقع الحال أن الحرية مناخا نادرا لبعض القوى السياسية و الدينية التي عرفت القهر والاستبداد و التهميش و الإقصاء للعودة مجددا إلى لعب أدوارا سياسية واحتلال موقعا لها في خريطة العمل الوطني ولن يكون بالإمكان انتظار ما يمكن أن يعد تقاعسا أو تقصيرا في استغلال الفرصة التي يعني ضياعها دخول هذه القوى في غياهب التاريخ بل وزوالها ، فالصراع المتوقع من أجل الوجود السياسي ينبغي أن لا يشكل موضوع خلاف وعامل تفرقة وتشتت بل مظهر اختلاف على سبيل التنوع للدلالة على ثراء الفكر الوطني وتعدد تياراته المتفاعلة في بوتقة واحدة هي النظام الديمقراطي الذي يعترف بالتعددية السياسية و الإعلامية و النقابية ، وبرغم ذلك فلا مناص من الاعتراف أن الثورات العربية قد انفردت بنجاحها في الانتقال من مرحلة إجراء تغيير في النظام التي يعبر عنها بالاستمرار المتغير إلى مرحلة تغيير النظام أي التغيير المستمر .
إذا كانت الثورات العربية قد رفعت في بداياتها شعارات اقتصادية و اجتماعية إلا أن المعطى السياسي سرعان ما كشف عن نفسه وهو المتمثل أساسا في رفض فكرة التوريث التي بدت ملامحها بصفة خاصة بالنظامين المصري و الليبي وبدرجة أقل في النظام اليمني خاصة بعد نجاحها في سوريا حيث كانت الجرأة كبيرة لدى النواب بالبرلمان لتعديل الدستور من أجل التمكين لبشار الأسد من خلافة أبيه في رئاسة الجمهورية ، هذا المعطى السياسي كان سيمثل بحق ضربة موجعة في حال تحققها للنظم الجمهورية العربية تسقط عنها كل ادعاءاتها بالديمقراطية ، لقد أنقذت الثورات العربية النظم الجمهورية

من أخطر التهم التي كان يمكن أن تلصق بها وهي الدكتاتورية .
من المفارقات التي يمكن الحديث عنها حول الثورات العربية المصير الذي آلت إليه زوجات الزعماء العرب المخلوعين مقارنة بزوجة الملك الفرنسي لويس السادس عشر ماري أنطوانيت التي لم أجد من تحدث عنها خير من الأستاذ الفنان المصري الراحل محمد صدقي الجباخنجي في كتابه " مراجعات في حديث الفنون " الصادر عن المطبعة الاجتماعية ، بولاق ، مصر في نوفمبر 1946حيث يذكر أنه " قل أن توجد في تاريخ الفن نموذجا مثل " ماري " استطاعت أن تلهم الفنان و تستحث خياله و عبقريته بنضارة شبابها و ابتسامتها الفاتنة ، عاشت ماري في " فيرساي " وشهدت فصولا من مهزلة زوجها لويس السادس عشر عندما أراد القدر القاسي أن ينتقم من ابتسامتها الساخرة فعبست الحياة في وجه العرش ومن عليه فقذفت الملك و زوجته و الحاشية في سجن " كونسييرجيري " المظلم الذي حول ماري إلى صورة شيطانية وقد اشتعل رأسها شيبا وغارت عينيها واكتوت بدموع الحسرة و الألم ولكن تلك الابتسامة الساخرة ظلت تحلي شفتيها ، تلك الابتسامة التي أوصتها بها أمها الملكة ماريا تيريزا فكثيرا ما كتبت إليها تقول ( كوني طيبة وابتسمي فهذا كل ما يتبقى لك بعد الثروة و السلطان ) ومن المصادفات العجيبة أن يراها المصور " دافيد" وهي جالسة في عربة الموت تجرها البغال مجتازة بها شوارع باريس في طريقها إلى ساحة الإعدام وقد كبلت يداها من خلفها بالحديد في موكب بين حاشية بلاطها التعساء فصورها على قصاصة من الورق في خطوط سريعة تقطر ألما على تلك المخلوقة التعسة . " هذه نهاية من ندر أن توجد من تباريها في كثرة ما توافر لديها من صور تمثلها في مختلف الأشكال و الأوضاع من ريشة أشهر الفنانين ، وحين نتأمل نهاية ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي وهي تعيش بقصر في كنف المملكة العربية السعودية ، ولجوء زوجة العقيد ألقذافي و أبنتها عائشة و ولديها محمد و حنيبعل إلى الجزائر ، واهتداء سوزان مبارك إلى إرجاع من الأموال ما أنقذها من المحاكمة العلنية يمكننا حينها أن نعلم أن الثورات العربية أرحم بكثير من الثورة الفرنسية بالرغم من أن هؤلاء الزوجات لم يكن أقل سوءا من "ماري " التعسة " .

CONVERSATION

0 comments: