محمد حسين بهنيس شاعر وروائي
وفنان تشكيلي سوداني ، عرفته الحياة السودانية انساناً صاحب قيم واخلاق عليا ،
متعدد المواهب ، يتميز بالحيوية والنشاط والابداع المتجدد والانتماء للأدب
الانساني الواقعي الملتزم . وكنا عرفناه نحن القراء على امتداد الوطن العربي ، من
خلال أشعاره البسيطة الصادقة ، النابعة من صميم القلب والوجدان ، المرتبطة بالهم
الشعبي والواقع السوداني القهري المر ، والمنتقدة للاوضاع السياسية والاجتماعية
العربية ، وعبر منجزه الروائي الابداعي "رحيل"، الذي حاز على اعجاب
النقاد ، ووصفوه بأنه "ولادة جديدة لطيب صالح جديد" ، وكذلك من خلال
رسوماته ولوحاته الفنية التشكيلية التي عرضت في أكثر من مكان في السودان وخارج
حدوده .
عانق بهنيس ضوء الحياة في ام
درمان بالسودان عام 1972 ، وينتمي لعائلة سودانية كادحة . شب وترعرع وسط الفقر
والجوع والبؤس ، ورغم ذلك انهى دراسته الثانوية والتحق بجامعة الخرطوم ، وبرزت
مواهبه الادبية والفنية وهو على مقاعد الدراسة ، ومنذ ان كان طالباً بدأ بنشر
كتاباته والمشاركة في المعارض الفنية في بلده وفي عديد من دول العالم كفرنسا
والمانيا واثيوبيا .
مع بداية الالفية الثانية سافر
بهنيس الى فرنساً وهناك تزوج من ابنة حاكم احد الولايات الفرنسية وانجب طفلاً ،
وسرعان ما نشبت بينهما الخلافات الزوجية فطلقها وتم طرده وترحيله قسراً من فرنسا .
وهذه الحادثة كان لها الوقع البالغ على وضعه النفسي فأثرت فيه وجعلته يعاني ويقاسي
الاضطرابات النفسية ، وازدادت هذه المعاناة بعد أن ماتت والدته دون أن يعلم
بوفاتها الا بعد ثلاث سنوات من وفاتها ، فاصيب بعزلة ووحدة قاتلة طويلة . وقبل
حوالي العامين تلقى دعوة للمشاركة باحد المعارض الفنية التشكيلية في القاهرة فلبى
الدعوة وجاء الى قاهرة المعز الفاطمي وقرر البقاء فيها وعدم العودة للخرطوم ،
واقام في بيت مستأجر في حي العتبة ولم
يتمكن من دفع المستحقات لصاحب البيت ، بعد أن ضاقت به الحياة وتدهورة احواله
النفسية واوضاعه الاقتصادية والمالية ، نتيجة الفقر والفاقة والتشرد والغربة
والاحباط والضيق والاكتئاب النفسي ، فلجأ الى احد ارصفة ميدان التحرير وسط القاهرة
واتحذ منها مأوى ومناماً وغطاءً حتى تجمد من البرد والصقيع خلال موجة البرد
الأخيرة ، التي ضربت مصر والشرق الاوسط . وبذلك انتهت حياة بهنيس بموت تراجيدي
وفاجعة انسانية ، تكشف وتمثل مأساة المبدع والمثقف العربي الذي لا يجد الاهتمام من
المؤسسات الثقافية والدوائر الحكومية ، التي لا
توفر مبلغاً من المال له ليتمكن من العيش بشرف وكرامة فيعيش حياته فقيراً
جائعاُ مشرداً مكلوماً ومكتئباً لا يجد القوت في بيته ، ولا ثمن فنجان سبريسو في
جيبه .
انه الواقع العربي المحزن
والمؤلم الذي يعيشه المبدع والمثقف في ظل انظمة القهر والفساد والعهر الاستبدادية
القمعية الاضهادية ، التي لا تحترم مثقفيها ولا تقدر مبدعيها ، ولا تضع قضية
الابداع والثقافة على رأس سلم اولوايتها . وهو حال كل المثقفين الشرفاء والانقياء
الذين لا يجيدون النفاق والضرب بسيف السلطان ، ويرفضون الاغواء والتدجين والسقوط
في مستنقع ووحل المؤسسة والسلطة الحاكمة .
ان تاريحنا الثقافي العربي حافل
بالعديد من الامثلة التي تدل على عمق معاناة ومأساة المثقفين والمبدعين من انقياء
الكلمة الملتزمين بقضايا شعوبهم ونضالهم ، الذين يسبحون ضد التيار، ويهتفون للشعب
والمقاومة ، ويقفون مع الضحية ضد الجلاد . ولعل خير مثال على ذلك الشاعر العراقي
الكبير والمتمرد صاحب الوتريات الليلية مظفر النواب ، والشاعر الفلسطيني علي
الخليلي الذي مات بالسرطان قبل مدة وجيزة ، وقضى ايامه الأخيرة على الفراش دون
تقديم المساعدة له من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية ..!
فيا لعار الانظمة العاهرة
والمؤسسات الثقافية العربية التي تركت بهنيس يتضور جوعاً ، ويسوح في الشوارع
، وينام على الارصفة ، حتى تجمد من برد
الشتاء ومات على قارعة الطريق . وكم من بهنيس لا يزال بيننا وفي عالمنا العربي
الكبير الواسع ينتظر المصير نفسه ..!
0 comments:
إرسال تعليق