مارسيل منصور من التغير إلى التحرر/ الأب يوسف جزراوي

هي شخصية موسوعية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. لها باع طويل في الفن والأدب والنقد؛ تُمارس الفنون البصرية وتتفنن برسم الكلمات المُعبرة، مجسدة الأفكار النيرة  لأكثر من ثلاثة عقود.   تتمتع بذكاء فطري، وتسلك بطيبة ملموسة في مسالك الحياة، تطغو عليها شهامة "بنت البلد" بشكلٍ كبير. عرفتها صادقة النوايا، حلوة الحديث، متقنة لفن الإصغاء، أحيانًا  تحسبها وقد أغمضت عينيها أنَّ قيلولة أو نوم قد أخذها، إلى أن تثب عليك فجأة من حيث لا تحتسب. تتمتع بقدرة مميزة على قراءة الأحداث  وتدرك كيف تُقيم التوازن في العلاقات الإجتماعية ومع الزملاء في الوسطين الفني والأدبي. تطلّ على الآخرين حين تُريد، ويوم تطلّ تلقى بين يديها عصا تمسك بها  دائمًا من المنتصف، لهذا فإنَّ الشخصية التي نحن بصددها اليوم  توصف بأنها فنانة  بِلا خصوم. هي شخصية حريصة على ما تنتج، تدقق في الصغيرة كما في الكبيرة،  أدركتها  إنسانة متزنة وفنانة موهوبة تملك أدوات العصر في التعبير عن النفس البشرية والحياة الوجودية والكوامن المعقدة داخل الذات الإنسانية..

إنّها مارسيل منصور التي حظيت بنعمة الحياة بتاريخ 7/11/1951 بقطاع غزة من عائلة مسيحية فلسطينية هاجرت من يافا إلى غزة  عام 1948. امتشقت ريشة الرسم في سنّ صغيرة لتبوح بما يختلج في الذات وما يلوح في الفكر، فجذبت الأنظار إليها  منذ دراستها الإبتدائية؛ حيث أنيطت بها مسؤولية " اللوحة الجدارية" في المدارس التي تعلمت فيها؛ فكانت تزينها برسومات وتخّط عليها الشعارات.
تركت غزة عام 1970 متجهة إلى مصر. وفي القاهرة درست في جامعة "عين شمس" آداب اللغة الإنكليزية، لكنها  إنقطعت عن الدراسة ردحًا من الزمن بعد زواجها من السيّد موريس منصور الذي كان يومها موظفًا في شركة طيران الخطوط الجوية الكويتية بدولة الكويت. وبعد أن جمعهما رباط أبدي مقدس، اتجهت مارسيل إلى العمل، فعملت في بادئ الأمر بالتدريس ثم مضيفة أرضية في نفس الشركة، ثم عاودت الدراسة إلى أن حصلت  عام 1977 على شهادة البكلوريوس في آداب اللغة الإنكليزية من الجامعة المذكورة.
في عام 1978 هاجرت  إلى استراليا بصحبة عائلتها المُباركة. وفي استراليا حصلت على دراسات أخرى في السياحة والسفر والترجمة في عام 1980 من جامعة UTS ،  كما وصقلت موهبتها الربانية، يوم قصدت مدرسة فنية خاصة لغرض تعلّم الرسم بالزيت في منطقة "موسمان" .  ثم أقامت أول معارضها  الفنية في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، فجسدت عبرَ لوحاتها الجمال متمثلاً بالطبيعة الخلاّبة لاستراليا والبلدان العربية.
مضت السنون والمرأة منهمكة بين الدراسة والعمل وتنشئة أسرتها، إلى أن آن الآوان لتُعبّر عن تلك التعددية في حياتها  (كأم وكاتبة وفنانة وموظفة) حين نشرت تجربتها الشخصية في مقالٍ شاركت به في منافسة أدبية بمناسبة العيد المئوي الثاني لأستراليا، لصحيفة "النهار" يوم كان مالكها الصحافيّ الراحل الكبير بطرس عنداري –رحمه الله. جاء المقال تحت عنوان "نضال المرأة العربية في أُستراليا"، فحصلت على جائزة صحيفة النهار في ذلك الوقت عام 1988 وأصبحت فيما بعد كاتبة بتلك الصحيفة لعدة أعوام ، نظمت خلالها  الشعر وحبّرت  مقالات  أدبية وأجتماعية ونشرت رسوماً متعددة.
شملت أعمالها  الفنية العديد من المناظر الطبيعية،الأيقونات، رسم الأشخاص، الرسم على الجداريات، وتتضمن جملة من الموضوعات المتنوعة عن قضايا المرأة، الهجرة، المجتمع، التعددية الثقافية، الحرية، الحرب والسلام وغيرها .
شاركت في العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية مع نخبة من مشاهير الفنانين في أماكن مرموقة من استراليا وبلدان أُخرى في بقاع العالم. من أشهر معارضها(Images of Wisdom)  بمعنى (صور من الحكمة) في  المتحف الأسترالي عام 1996، و  Shifting Waves)) بمعني (الأمواج المتحركة) في برلمان الولاية في عام 1998 .

من أحدث أعمالها الفنية المعرض الضوئي الفردي بعنوان " ثريشهولد" بمعنى " نقطة التحول" وقد استضيف في مدينة نيويورك في آذار 2014 ، وأيضًا في مركز الفنون  بمدينة سيدني - بانكستاون في شهر ابريل من العام ذاته ، كما أنه يطوف الآن بجولة فنية  في أستراليا .
اقامت معرضها الضوئي Threshold)) مؤخرًا فيMary Mackillop Place Museum   شمال مدينة سيدني، وتحديدًا مساء يوم الاربعاء 10/12/2014  ، بحضور نخبة من أعضاء السلك الدبلوماسي والوسط الفني والثقافي والأدبي، إذ جعلت من صالة العرض " ذاتًا إنسانية ". ولعلَّ من المفيد هنا أن أنقل للقارئ الكريم ما ذهبت إليه الفنانة وهي تشرح الغاية من معرضها الاخير: " إنَّ التأمّل في الذات وما حولها والغوص في أغوار النفس البشرية التي تولّد في الإنسان طاقة جديدة تمكنه من اكتشاف حقيقة نفسه والعالم من حوله حتّى تتسع أمامه رقعة المعاني المُتلاحقة في هذا الوجود الجميل، فينطلق من عالمه المحدود ( الذات) إلى العالم الرحب متأملاً الذات الإلهية وعطية الحياة المجانية وإدراك الرسالة الذاتية في رحلة الحياة، فإنَّ المحور الأول والأخير هو "الإنسان" و"الإنسانية" من أجل تغيير الواقع إلى الأفضل" .

 وتضيف فنانتنا: " إنَّ اللوحات الضوئية التي قدمتها أثناء تحركها في معرض Threshold هي سلسلة من العمل الفني التجريدي المُعاصر الذي يُخاطب الأجيال في كلّ مكانٍ وزمان، وقد استخدمتُ فيه النور- الضوء – كمادة ، معتبرة  الإدراك الحسيّ والذهني وسيلة لغرض دعوة المُشاهد وتحفيزه على المُشاركة في التأمّل بتلك اللوحات الضوئية والتي تتغير ألوانها وأشكالها في حركةٍ ديناميكيةٍ مُستمرة، يستطيع الإنسان من خلالها أنْ يُعايش التجربة المُباشرة مع الفن عن طريق التأمّل في النور والذات والعالم، أيّ عن طريق الإدراك الحسيّ والفكري بأدق معانيه والتي تؤدي إلى التأثير العميق في نفس المُشاهد. ولذا فإنَّ غاية المعرض الفني ليست عائمة علي السطح، وإنّما تثير في المُشاهد أو الناقد أو المتلقي المتذوق للفن شهوة التأمّل ومراجعة الذات وتفحص ما مضى من الحياة  ليغوص في أغوارها لاكتشاف رؤية جادة تعلن ولادة جديدة من خلال شُعاع النور المُنعكس على حواسه وقلبه وروحه وعقله، فتكسبه هذه الحالة الوجدانية منظارًا جديدًا، نابعًا من رؤية مُغايرة،  تجعله في حالةٍ من العمق والدراية تكون أوفر ممّا كان عليه، وذلك لأن في النور قوة كبيرة وطاقة جمة، لها دلالة المعرفة والحكمة، كاشفة عن حقيقة الذات والحياة المُستترة،  وتعمل على حضور غير المرئي فتجعله مرئيًا".

وسوف نظلّ نذكر لمارسيل  أنها من المؤمنات بأنَّ التغيير هو جزء من الطبيعة البشرية البيولوجية والنفسية، بمعنى أنها تهدف إلى مساعدة المرء على التحول الروحي والذي  يحدث عن طريق التأمّل في الأعماق، حيث يحقق للإنسان أثناء إبحاره إلى الذات ولادة جديدة تجعله من المُبحرين في سفينة الإنسانية، التي تقوده إلى حالةٍ من التجدد على صعيد الجوهر والكيان منعكسة على التفكير والرؤية  والسلوك، فالمرأة سعت من خلال لوحاتها الضوئية  إلى إحداث  تغيير يحصل في اعماق المرء، يشمل القلب والروح والفكر كجزء واحد، فيصل عندها الإنسان إلى قمة النضج الإنساني.
تعتقد مارسيل أن التغيّر أو التحول، قضية جوهرية في حياة الإنسان باعتباره خارطة طريق يقود المرء إلى التحرر، فهي ترى أنَّ الشخصية الناضجة التي أنتابها التحول الإيجابي، تُشكل القاعدة الأساسية والضرورية في الحياة الروحية، والتي تستمد شُعاعها من النور حين تتلمس التنوير الذي يستحوذ على الأعماق ليؤدي  بدوره إلى عنصر التحرر من القيود الماديّة البالية وتجاوز أسوار الأنا وشهواتها ، مصحوبة بمفاهيم الحرية الصحيحة، وأنَّ ذلك لأمر في غاية الأهمية لاستيعاب الحياة المُتجددة والتي بمقدورها الإستنارة من الرؤية الحقيقية لأغوار الذات لتتفتح البصيرة ويتنور الفكر وتتجدد الأعماق وتتضح الرؤية، من أجل تغيير الواقع نحو حياةٍ أجود .

ونتيجة لجهودها الحثيثة نالت في ذلك المساء الذي شهد عرسًا فنيًا، درع التكريم من كاهن رعيتها، ودرع الإبداع من مؤسسة سواقي للثقافة والفنون، ولا أجد غرابة في الأمر، لأنها شخصية متعددة المواهب، فهي فنانة مرموقة وكاتبة قديرة وشاعرة وناشرة وإعلامية؛ إذ عملت في الماضي بوسائل الإعلام الإثنية المقروءة  والمسموعة بما فيها الإذاعة العربية ، والشبكة التلفزيونية الفضائية. ولمارسيل  أيضًا دائرة واسعة من المعارف والأصدقاء، فقد جمعت حول لوحاتها ثلّة من فنانيّ وكتّاب  وشعراء وسياسيي وإعلاميي الجالية العربية في استراليا. 

حصلت مارسيل خلال مشوارها الفني والثقافي على عددٍ من الجوائز التقديرية في الأدب والفن المرئي إلى جانب المُنح من هيئات الفنون المتنوعة مثل مجلس أستراليا للفنون، إذ تم اختيارها عام 1996 نموذجًا مثاليًا يحتذى به على الجانب الثقافي. وفي عام  1997نالت جائزة شربل بعيني الأدبية. وفي عام 1998 صدر لها كتاب "شيفتينغ وايفز- الأمواج المتحركة " في النثر والشعر ورسم الأشخاص وتدوين سيرتهم الذاتية للجالية العربية في استراليا . فضلاً عن ذلك، لقد زينت لوحاتها ورسوماتها أغلفة العديد من الكتب منها للأديب المصري أنطوني ولسن ، والصحافيّ الكاتب الفلسطيني هاني الترك، ولكاتب هذه السطور وغيرهم. ولعبت دورًا كبيرًا في المشهد الفني والثقافي العربي في أُستراليا ولا تزال، فهي الآن عضو في المركز الثقافي الأسترالي العربي، مُنتدى بطرس عنداري،  ومؤسسة سواقي للثقافة والفنون.
ومن الجدير بالذكر أنَّ تلك الفنانة الدؤبة حازت في عام 2012 على ماجيستير في فن الأستوديو، ثم نالت  عام 2014 ماجيستير في الفنون الجميلة من جامعة سيدني. لقد علّمت نفسها بنفسها وثقفت ذاتها في غزة والقاهرة وسيدني، وبلغت مستوى ثقافيًا رفيعًا بجهدها الذاتي.

وتعترف الفنانة مارسيل منصور بأنَّ التكنولوجيا المعاصرة  قد مكنتها من نشر أعمالها في أرجاء المعمورة فانتشر اسمها وذاع صيتها خصيصًا عبرَ معارضها الضوئية. وقد يعلم العالمون أنَّ أعمالها الفنية السابقة لم تخل من آراءٍ سياسية، فقد تناولت في بعض رسوماتها السابقة: الحرب، السلام، المعاناة، ثورة الحجارة، لكنها لم ولن تنتمي إلى أيّ حزبٍ أو جهةٍ حزبية، وإنْ كانت تحمل قضية فلسطين الكبرى وهمّ الوطن بين جوانحها. ومنذ زمن ليس بالقصير اتجهت مارسيل  إلى رسومات دارت رحاها حول الروحانيات والميول الإنسانية والمناظر الطبيعية الخلاّبة من هذا الوجود الجميل، فاستخدمت النور والإدراك الحسي والفكري في الفن التجريدي، كوسيلة للتواصل من أجل أن ترفع صوتها عاليًا أمام العالم ريثما يتم التحول والتغيير الجذري نحو الأفضل من حيث المواطنة وتحقيق الحرية والعدالة ونشر السلام في كلّ بقاع عالمنا المضطرب، فرسوماتها تعكس ضمير فنانة هاجرت من وطن جريح ينزف منذ عقود  قطرات من الدم، مثل تلك التي نزفها وينزفها بلدي العراق.
ولقد جسدت فنانة فلسطين المتالقة تلك المعاني النبيلة خلال كلمة شعرية أفتتحت بها معرضها الأخير المشار إليه اعلاه:
"تعالوا نتحول ... ونحوّل
تعالوا نتغير ... ونغيّر
تعالوا نستلهم من شعاع النور السرمدي
نتأمل في عمق خفايا الأسرار المجيدة
نعيد التفكير في الماضي والحاضر
لنكشف عن رؤية جديدة
بمنظار ناصع حديث معاصر
تعالوا  معًا
نُعانق جداول المحبة
نوجد إنسانية حميمة
ونعلن ميلاد الحرية والسلام"

تلك بعض الشذرات التي أردت أن ادونها عمّن عرفتهم عن قرب بأمانةٍ وموضوعية، ومارسيل منصور إحدى تلك الشخصيات التي أكن لها قدرًا كبيرًا من الإحترام والمحبة، لرقي سلوكها، ونبل أخلاقها، ووسع قلبها، وجمال فنها،  فالف تحية لتلك السيّدة االمبدعة التي دخلت التاريخ  كإنسانة وفنانة وأديبة من أوسع أبوابه، فقد ادركتها متمسكة بمادئها، عاشقة لوطنها الأم، مؤمنة بنفسها وبالاخر مهما كان شكله أو لونه أو معتقده، مدركة فضل زوجها الأستاذ موريس منصور الذي يتمتع برؤية فلسفية وبصيرة التذوق الفني، فالرجل  كان ولا يزال  بحسب اعترافها شريكًا لنجاحاتها المبهرة.

في الختام أذهب لأقول: مارسيل منصور، اسم يعني الإبداع؛ إنّها نبتة الأرض الطيبة وابنة فسطين البارة التي يتواصل عطاؤها دائمًا وتعلو مكانتها دومًا، وضعها الرب على طريقي وفي دروب الآخرين نعمة وبركة.

CONVERSATION

0 comments: