مستر بالدوين والوهابية ـ الحلقة الثانية/ محمود شباط

الجوُّ الصحراويّ يلفّ مزرعة الدكتور شايع الطويعمي في منطقة قريبة من واحة يبرين في شمال الربع الخالي. طلب الدكتور من الخادم إغلاق باب المكتب والباب الخارجي كي يحولا دون وصول هدير حفارة المياه ورغاء البعير وضجيج الخارج بحيث يتسنى له التفرغ للرد على استفسارات ضيفه المستر جون بالدوين بخصوص الحقبة الوهابية الأولى. 
في غرفة واسعة تخالها مكتبة متوسطة الحجم، رفوفها تكتظ بمئات المجلدات والكتب، معظمها باللغة الإنكليزية. مجسم صغير لعلم المملكة يتصدر المكتب، بجانبه القرآن الكريم وكتاب "نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما. صور الملوك، بدءاً من المؤسس الملك عبد العزيز  ابن سعود ولغاية أخيرهم الملك سلمان مصفوفة بانتظام على جدران المكتب. 
الدكتور شايع خلف مكتبه أنيق كعادته كما لو كان في اجتماع رسمي، ثوبه الخليجي التقليدي المكوي ناصع البياض، حضوره الكثيف يملأ مقعده الجلدي الأسود الوثير، مستر بالدوين مقابله، زميل بالدوين المهندس عبد الرحمن على يمين بالدوين، ثم ولدا الدكتور : مشعل و ثنيان. دعا الدكتور ضيفيه للبدء بتناول قهوتهما والتمر الحساوي المشهور بلذة طعمه، ثم تناول تمرة و رشف قهوته، مسح يديه وفمه بمنديل ورقي ثم رحَّب بضيفيه و توجه بسؤاله إلى جون بالدوين :
- من أين تريدنا أن نبدأ يا مستر بالدوين ؟
- ابتسم بالدوين ثم قال : أظن من المناسب أن تضيء لنا على نشوء الحقبة الوهابية الأولى سيدي .
- حسناً ، لك ما تريد . 
عدّل الدكتور شايع وضع غترته وصقل مقدمتها بسبابته وإبهامه، جال بنظراته على الحضور مبتسماً بإلفة ووقار . بدأ كلامه بالثقة واللهجة اللتين يلقي بهما محاضراته في الجامعة والمؤتمرات:
 "ليس بخافٍ على كل المتعاطين بهذه المسألة بأن مؤسس الحقبة الوهابية الأولى هو الداعية والمصلح الديني الإمام محمد بن عبد الوهاب، المنفي من بلدة العُـيَـيِّـنَـة التي تبعد حوالي 85 كم باتجاه جنوب غرب الرياض. ولكثرة  تشدد ذلك الإمام، ولفرط حزمه وإصراره على تطبيق المذهب الحنبلي بصرامة لم يحتمله أهل بلدته فشد الرحال إلى بلدة الدرعية، وهي بلدة قريبة من الرياض، حيث استقبله أميرها في حينه محمد بن سعود، واتفقا على الشروع في الإنطلاق بحملة إصلاحية دينية في عام 1744، وصلت طلائعها إلى سورية والعراق شمالاً وإلى سيناء جنوباً، وبذلك وضعا المداميك الأساسية للحقبة الوهابية الأولى، أو بعبارة أخرى، للدولة السعودية الأولى التي صمدت لغاية عام 1819 ".
- هلا تفضلت سيدي بالإضاءة على الأسباب الكامنة خلف حملة محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب ؟
- رد الدكتور شايع : انقطاع نجد وأهلها عن العالم الخارجي أدى إلى تقوقع قسري لأولئك القوم. إذا ألقيت نظرة على خريطة المنطقة فسوف ترى بأن شبه الجزيرة العربية معزولة من ثلاث جهات بالمياه، في وسطها منطقة نجد كـ "جزيرة" ، و في وسط نجد تجد "جزيرة" الدرعية والعيينة والرياض وما حولها، كما أسلفنا، كانت تلك البلدات النائية عن كل مكان تغط في عزلة عن العالم الخارجي ومتغيراته، تلك العزلة أسهمت في تنامي الجهل والتخلف بين أناس يقيمون في صحراء جرداء قفراء إلا من عدد قليل من الواحات، وبظروف مناخية قاسية، لا مرشد ديني، لا طبيب، لا أجهزة رسمية ولا خدمات، كثيرون منهم عادوا عن الإسلام وتقاليده وقيمه ومسلماته واستبدلوه بممارسات شعوذية ووثنية، عادوا إلى عبادة الشجر والحجر والنجوم وغيرها. ولكن ، والحق يقال بأن تلك الحملة أفلحت في أزالة الشعوذات والوثنية وزرع "الإسلام الحقيقي" كما صار منتسبو حركة الإخوان الوهابية يسمونه لاحقاً. والقائم فعلياً على مذهب الإمام أحمد بن حنبل كما ذكرنا.

- قال بالدوين : ما الذي جعل تلك الحركة تحظى بالشعبية الواسعة التي تمتعت بها ؟
- رد الدكتور شايع : كما تعلم ربما، يقال بأن انبهار العقل أخطر من انبهار العين. من اليسير استقطاب الناس على أسس دينية ومذهبية هم على استعداد فطري لتقبلها، إذ أن ذلك لا يتطلب أكثر من الإيمان المجرد، لا يحتاج إلى ثقافة وجهد في استيعاب فكر جديد. بساطة المطلب وبساطة الناس سهَّلا انتشار فكر الحركة الوهابية كالنار في الهشيم، وحيث تعشش الأمِّية بأذرعتها الأخطبوطية المتعددة و يسود التخلف ينمو التطرف. أضف إلى السبب السابق ذكره الجانب الغيبي كوعد الشهيد بالجنة وما إلى ذلك. 
- أخبرتنا سيدي عن تاريخ إخماد الحركة الوهابية الأولى دون أن تتطرق إلى كيفية إنهائها، ومن هي القوة التي أنهتها ؟ 
- النمو المتسارع لقوة الوهابيين، واتساع انتشار رقعة نفوذهم على مساحات شاسعة من أراضي الإمبراطورية العثمانية أقلق السلطان محمود الثاني فأوعز في عام 1811 إلى واليه في مصر، محمد علي باشا، الذي جهَّز حملة عسكرية كبيرة بقيادة ابنه إبراهيم باشا واتجه بها نحو نجد والحجاز، ولاحقاً إلى بلاد الشام، واجه الجيش المصري خلالها صعوبات حقيقية وجدِّية في محاربة الوهابيين الذين قاتلوه بنكران ذات نادرة، وبشراسة وشجاعة قل نظيرهما، ولم يتمكن من هزيمتهم إلا بعد نفاد ذخيرتهم ومؤنهم ما أدى إلى احتلاله للدرعية في عام 1819. ولكن جذور عقيدتهم كمنت كالجمر تحت الرماد.
- سأل بالدوين: أتعتقدون سعادتكم بأن دوافع الحركة الوهابية كانت دينية فقط ؟ وفي سبيل نشر كلمة الله وإعلائها كما قيل؟ أعني ألم يكن هناك دوافع سياسية من قوى خارجية ومصالح دول؟ كفرنسا و بريطانيا مثلاً ، وقوى أوروبية أخرى ؟
- ابتسم الدكتور شايع:
- كان هناك دوافع داخلية أيضاً سوف نقاربها لاحقاً، ولكن قل لي يا مستر بالدوين : لماذا وضعت فرنسا قبل بريطانيا، كان الأحرى بك أن تفعل العكس. على أية حال، لا ريب في وجود دوافع خارجية، إنما بريطانيَّة في المقام الأول،أجل يا عزيزي جون ! إذ أن دخول الأمبراطورية العثمانية  طور  الضعف والوهن والتراجع منذ عام 1699، في عهد السلطان أحمد الثالث، أغرى القوى الأوروبية الاستعمارية ، وفي مقدمها بريطانيا، كي تسعى إلى ملء الفراغ المتوقع. 
رشف الدكتور جرعة ماء وأكمل :
- في تلك الفترة نشأت حركات ذات طابع قومي انفصالي عن العثمانيين لتفكيك إمبراطوريتهم، أبرزها حركة علي بك الكبير في مصر في عام 1736، وهو غير محمد علي باشا، وحركة ظاهر العمر والي عكا، إضافة إلى تحركات أخرى في أمكنة وأزمنة مختلفة كانتفاضة الأرمن الاستقلالية. الحركة الصهيونية بزعامة ثيودور هرتزل لتأسيس كيان لليهود على أرض فلسطين المحتلة. الحركات التبشيرية الأوروبية تكاثرت بشكل ملفت في بلاد الشام والمستعمرات التركية. من الإشارات الموحية بدور بريطاني بشكل خاص، وأوروبي بشكل عام، في اختلاق حركات انفصالية مناهضة للعثمانيين استفادة تلك القوى من دم الوهابيين، وكذلك مما حققه الوهابيون من إنجازات على الأرض أسهمت وبشكل فعال، مع الحركات الأخرى سالفة الذكر، في تفكيك الإمبراطورية العثمانية وإضعافها إلى حد كبير. وبالقدر الذي استغلت فيه بريطانيا والقوى الأوروبية الأخرى دم الوهابيين، بالقدر ذاته وأكثر ربما، استغلوا وجَـيَّروا ثمن الدم الذي سفكه الوهابيون لحساب مصالحهم. وهكذا تراكمت خزانات الدم إلى أن رسم بها السيدان سايكس و بيكو خرائط المنطقة لاحقاً.... دون أن يسألوا أهلها.
- سأل بالدوين : من هي القوة التي ملأت الفراغ وحلت محل الوهابيين بعد إنهاء الحقبة الوهابية الأولى؟ ومتى بدأت الحقبة الوهابية الثانية؟
- نظر الدكتور إلى ساعته : أخشى بأننا تأخرنا بتناول الغداء، تفضلوا !
البقية في الحلقة القادمة 

CONVERSATION

0 comments: