محاكمة دونكيشوتية/ حسن العاصي


أعلن قاضي البساتين 
 محاكمة الأزهار
قد حملت النحل
جنيناً من سفَّاح

انتشر الخبر
وهاج الزهر 
وكثر الهمس
وصاح الجميع
مطلبنا الإصلاح

مدَّت الأغصان ظلّها
لكل العابرين
هذا الثمر والخمر
تراودني بمكر
كلما هبت الرياح

من ملأ كؤوس الخمر
في التيجان
همس العطر أن المذنب
هي حبَّات اللقاح

سأل القاضي اللَّيل
قال لاذنب لي في عشقٍ
ولم أسمع أنَّات الغرام
لكن الأمر وضَّاح

الحمل والغرام 
أمر قديم فطري
يشبه مايمسّ آخر اللَّيل
من نور الصباح

انتفض القاضي متضرماً
بين أغصان دوحه ثملاً
والشمس خجلى
صاح  اقبضوا عليه
قد أعلن مقاضاة الفلٌاح

الشطب الدموي والاغتيال السياسي/ د. مصطفى يوسف اللداوي

لا يسعُ العربَ الذين يحكمهم الشيخ والأمير، والملك والرئيس، والقائد والزعيم، والنقيب والقسيس، أبداً الرأيُ الآخر، ولا يحتملون وجهة النظر الأخرى، أياً كانت طبيعتها ومضمونها، سواء كانت نصحاً أو نقداً، تصويباً أو توجيهاً، تحذيراً أو تنبيهاً، طالما أنها تبدو معارضة وتظهر مخالفة، وأياً كان من يحملها أو يطرحها، أو الشكل الذي يتقدمون بها ويعرضون من خلاله آراءهم، ويعبرون عن وجهة نظرهم في الحكم أو في الأداء، وفي السلوك أو في الاجتهاد، سواء نصحوا في السر وداخل البيت وحافظوا على الخصوصية، أو فضحوا السلطة ونشروا آراءهم في وسائل الإعلام، وعبروا عنها بحريةٍ وصراحة.
السلطات العربية بإطارها الواسع لا الضيق، وبإطارها الشمولي لا المحدود، التي تشمل أنظمة الحكم وقيادة التنظيمات ومسؤولي الهيئات والتجمعات والنقابات والاتحادات، تضيق بالمعارضة صدروها، وتتحشرج بهم أرواحها، وتكاد تحتنق بهم نفوسها، فهي لا تقوى على التعايش معهم، أو الاجتماع بهم والتفاهم معهم، ولا ترضى أن تشاركهم السلطة، أو تقاسمهم المسؤولية، أو المساهمة معهم في حمل الأعباء الوطنية، وترى أنهم ينافسونها ولا يكملونها، ويهددونها ولا ينصحونها، ويخدعونها ولا يصدقونها، ويسعون لمصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية لا من أجل الصالح الوطني العام، ولا يهمهم الأمن والاستقرار، بقدر ما تعنيهم السلطة والقرار ولو كان ثمنها الفوضى والاضطراب، والدمار والخراب. 
السلطات العربية تعادي المعارضة الوطنية وتكرهها، وتتهمها في ولائها وتشكك في انتمائها، فتصفها تارةً بالمعارضة العميلة، أو الجاهلة السفيهة، أو الضالة المنحرفة، أو المأجورة الأجنبية، التي تعمل لحساب غيرها، وتنفذ أهداف عدوها، ولا يعنيها وطنها أو سلامة مواطنيها، بل إن همها الأساس السلطة والكرسي، والمنافع والامتيازات، لذا فهي اعتماداً على هذا التقدير الخاطئ الظالم، الدائم والمتشابه، تعلن الحرب عليهم، وتهدد وجودهم، وتحارب تجمعاتهم، وتنكل بقياداتهم، وتضيق على مناصريهم، وتعتقل مؤيديهم، وتصفهم بنقص العقل وقلة الوعي، وتتهمهم بالتقصير والتفريط، وتجيز لنفسها محاربتهم بكل الوسائل والسبل، المشروعة والممنوعة، والمباحة والمحرمة.
السلطات العربية ذات العقل الواحد والتفكير المشترك، التي تحمل العصا بيد والسوط بيدها الأخرى، لا تجد سبيلاً للتخلص من المعارضة إلا بقتل صاحبها أو تغييبه في السجون والمعتقلات، أو نفيه وراء البحار والمحيطات، أو شطبه سياسياً وتشويهه واتهامه، واستدراجه وتوريطه، أو تلويثه والعبث بسمعته، والإضرار بماضيه وبمستقبله، وهدم ما بنها وتدمير ما عمره، قبل أن تقدمه إلى الشعب بصورته الجديدة، لمحاكمته ومحاسبته، وإقصائه والابتعاد عنه، كونه نموذجاً لا يحتذى، ومثالاً لا يقلد، وإلا فإن مصيره ينتظر من أراد أن يقلده أو أن يتبعه، أو أن يؤيده ويأتي بمثله.
هي لا تعرف التكامل ولا تبادل الأدوار، ولا تقبل بالتنوع المغني ولا بالتعدد المميز، الذي يمنح القوة ويحصن الوطن، ولا تستفيد من المعارضة ولا توظفها كعدوها في الحفاظ على حقوقها والتمسك بثوابتها، ولا ترى نفسها قوية في وجودهم، ولا عزيزة معهم، لذا فهي تعجل في الخلاص منهم والقضاء عليهم، وهي تظن أنها ستكون بدونهم أقوى وأصلب، وأقدر وأفضل، وما عرفت أنها بسياساتها الخرقاء تقضي على سندها، وتكسر ظهرها، وتتخلى عن معينها، وتفرح عدوها وتصبح أمامه ضعيفة، وفي مواجهته وحيدة.
هذه هي سيرتنا نحن العرب منذ زمنٍ طويل، لم نبدل ولم نغير، فقد تعودنا أن الصورة لا تحتمل أكثر من وجه، والكرسي لا يتسع لأكثر من شخص، ومكبر الصوت لا يستجيب إلا لصوت القائد الأوحد والزعيم الملهم، أما السوط فإنه يجلد أكثر من جسد، والقيد يغُل أكثر من يد، ويكف أكثر من لسان، والسجان يسوق الكثير، والسجون تتسع للآلاف، وجوف الأرض يتسع لأكثر منهم، وكلاهما ينادي هل من مزيد، ودوماً هناك قصة وحكاية، تبرر الجريمة وتنسب الحدث، للصدفة التي سببتها سيارةٌ عابرة، فصدمت وقتلت، أو للحوادث العابرة، وحكايات القتل الخطأ عن غير عمدٍ، برصاص صديقٍ أو أثناء القيام بمهمة، وما هي إلا جرائم قتلٍ حقيقية للتخلص من المعارضين، وتصفية المخالفين.
أما الموالاة والأنصار، والأتباع والمقلدون الذين لا يحسنون نصحاً ولا يتقنون نقداً، ولا يبرعون فيما ينفع، إلا ما يهم مصالحهم، ويطيل بقاءهم، ويديم مناصبهم، ويحفظ وظائفهم، إذ لا يقدمون غير المدح، ولا يتقنون غير الإشادة، ويدعون أنهم الأعلم بما ينفع، والأدرى بما يضر، وأنهم لا يقصرون في مهمة، ولا يتأخرون عن واجب، ولا يسكتون عن حق، ولا يترددن في صد الظلم ورد المظالم، ولكنهم إن هم علموا بصاحب رأي يخالفهم، وبصوتٍ يعارضهم، أو يشوش عليهم، فإنهم يوشون به، ويبلغون عنه، ويطلبون من أسود الأرض وصقور السماء أن تنال منه ولا ترحم، وأن تؤدبه بقسوة ولا تتردد، وتعلم به قصداً غيره، ليكون له درساً وعبرة، وقصةً على مدى الأيام وحكاية، لا ينساها أمثاله، ولا يفكر بتكرار مواقفه أجياله ومن سيأتي بعدهم ممن سمع بحكايتهم وعرف خاتمتهم.
لا استثناء لدولة، ولا اقتصار على جماعة، ولا تخلُ من هذه الجريمة منظمة، فهي صفةٌ لازمة للأنظمة والأحزاب والقوى، وملاصقة للحكام والأجهزة والمؤسسات الأمنية، فهي تعرف أنها لا تكون بغيرها، ولا تبقى في أماكنها إن هي لم تؤمن بها وتعمل بموجبها، فهي سلاحها الأمضى الذي به تبطش وتحكم، وعصاها التي بها تهدد وعليها تستند وتتكئ، تهش بها حيناً وتضرب بها أحياناً، فمن استجاب وخضع، فقد ترضى عنه وتقبل به معها أو شريكاً، ومع أصر وعاند، وعارض واستكبر، فإنهم يعلمونه أن باطن الأرض خيرٌ له من ظاهرها، وغالباً يقتنع ويرضى، ويسكن جوف الأرض صامتاً ساكتاً لا حراك فيه ولا أثر من بعده لأفكاره، ولا صدى تحفظه الأيام  لأقواله، ذاك هو حالنا نحن العرب، حال الأسى والنكد، والبؤس والمرض والسقم.

أيها العبادي التأريخ لا يرحم ، فكن على مستوى المسؤولية/ جــودت هوشـيار

سقطت حكومة جمبرلن ، فى العاشر من شهر أيار 1940، في أحلك أيام الحرب العالمية الثانية ،عندما كانت لندن تتعرض يومياً الى الضربات الجوية الألمانية المدمرة ، وأصبح  ونستون  تشرتشل رئيسا للوزراء . وفى الثالث عشر من الشهر نفسه ، أي بعد ثلاثة ايام من توليه الحكم ، وقف تشرتشل فى مجلس العموم البريطاني  يخاطب رئيس وأعضاء المجلس ويطلعهم على الحقائق المرة للوضع السيء في جبهات القتال . وفي ختام كلمته التأريخية قال تشرتشل : "
" أود أن أقول لكم ، وكما اخبرت زملائى اعضاء الحكومة ، لا يوجد ما اقترحه عليكم سوى الدم والدموع والعرق والعمل . تسألون ماهى سياستنا ؟ اقول لكم انها النصر ، النصر بأى ثمن ، النصر رغم الأرهاب كله ، النصر مهما كان صعبا والطريق اليه طويلة ، لأنه لا حياة لنا من دون النصر .
أما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ، الذي خيب الآمال المعقودة عليه ، فلم يكن صريحاً مع شعبه ، عندما خاطب العراقيين في كلمته المتلفزة يوم الخامس عشر من هذا الشهر ، بعد يوم واحد من سقوط الرمادي .
قال العبادي ، أن ( التراجع ) الحاصل في الرمادي أمرعابر ، وان المبادرة ما تزال بيد قواتنا المسلحة البطلة ، وان داعش قد أصيب في الآونة الأخيرة بهزائم متلاحقة ، ولم  تبق في صفوفه سوى أعداد قليلة من الأرهابيين ، الذين سيتم القضاء عليهم خلال الساعات القليلة القادمة.
 صدق العبادي في حكاية ( الأعداد القليلة ) ، فعناصر داعش الذين استولوا على مدينة الرمادي ، كان تعدادهم لا يتجاوز ( 150 ) عنصراً . يقابلهم أكثر من ( 6000 ) عنصر من الجيش والشرطة مزودين بأحدث الأسلحة من دبابات وصواريخ ومدافع ولديهم كميات هائلة من الذخائر . كل هذه الأسلحة اصبحت لقمة سائغة لـ( داعش ) ، وتكررت انتكاسة الموصل مرة أخرى ، وطوى النسيان مسألة تحرير الموصل الى أجل غير مسمى
كانت كلمة العبادي العصماء غطاءاً تجميلياً لواقع مرير تعيشه القوات المسلحة العراقية والشعب العراقي بأسره .وتقول صحيفة " صنداي تايمز " البريطانية : "القوات العراقية أصبحت عديمة الجدوى تماماً، ولا تتمتع بالروح المعنوية، ويتم إرسال الجنود إلى ميادين القتال دون طعام أو ماء، مع قليل من الذخيرة، ويطلبون منهم التزود بالذخيرة من رفاقهم القتلى."
الجيش العراقي الحالي تشكل من دمج الميليشيات الحزبية ،غير المنضبطة . ولعل ظاهرة " الفضائيين " خير دليل على استشراء الفساد بين القادة العسكريين الجدد – الذين منحوا رتباً عسكرية عالية لا يستحقونها . ويقال أن حصة الأسد من رواتب الفضائيين ، كانت تذهب الى مكتب القائد العام للقوات المسلحة ، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي .
البيانات العسكرية الصادرة عن وزارتي الدفاع والداخلية وقيادة عمليات بغداد ، ما هي الا قنابل دخانية في محاولة للتغطية على الحقائق ،التي يعرفها ابسط جندي في ارض المعركة . ولو قمنا بأحصاء تقريبي - استناداً الى تلك البيانات ، لعدد قتلى داعش منذ معارك الفلوجة ،قبل نحو سنة ونصف وحتى يومنا هذا ، نجد أن العدد الأجمالي لقتلى ( داعش ) قد بلغ حوالي ستين ألف قتيل في محافظات الأنبار وديالى والموصل وبغداد وكركوك  .
ولما كان عدد الجرحى في الحروب ، هي خمسة أضعاف عدد القتلى تقريباً ،فأن عدد جرحي داعش  بموجب هذه البيانات كان ينبغي ان يصل الى (300) ألف جريح ، لنتذكر الخسائر الأميركية في العراق ، والتي بلغت أقل بقليل من خمسة آلاف قتيل وحوالى ثلاثين الف جريح . واذا علمنا أن أعلى تقدير لعدد مسلحي ( داعش ) لا يتجاوز ( 50 ) ألف عنصر، لأدركنا مدى المبالغة في البيانات الرسمية العراقية .
الجيش العراقي لم يتمكن من تطهير بلدة الفلوجة من ارهابيي داعش رغم عشرات المحاولات التعرضية والقصف الجوي بالصواريخ والبراميل والغارات الجوية التي تشن على المدينة يومياً طوال حوالي ثمانية عشر شهراً .كما أن الجيش العراقي عجز عن الأحتفاظ بالمناطق المحررة ( مصفاة بيجي ، الكرمة ، ناحية البغدادي .. الخ ) .
وصفوة القول ان الجيش الحالي المترهل ، الذي يقوده جنرالات الدمج - والذي عجز تماماً عن الأستفادة حتى من الضربات الجوية لقوات التحالف الدولي ،   لن يحقق النصر على داعش ،اذا ظل على وضعه الحالي ،  ولا بد من اعادة هيكلته والتركيز على  التدريب واكتساب المهارات القتالية ، وتعزيز القدرات الأستخبارية واختيار القادة الكفوئين .
ثم أن تنظيم داعش ليس مجموعة ارهابية صغيرة ، ولو كان الأمر كذلك ، لكانت الشرطة العراقية وحدها كفيلة بالقضاء المبرم عليه في وقت وجيز ، بل جيش مدرب ومنظم أقوى من القوات البرية لمعظم الجيوش العربية .
كفى خداعاً أيها السادة : لتكن لديكم شيء من شجاعة تشرتشل وحكمته وارادته القوية .!
 آن الأوان لمكاشفة الشعب بالحقائق ، وتوفير كل مستلزمات النصر على داعش ليس بالبيانات والتصريحات والخطب الرنانة وتبرير الهزائم وتزوير الوقائع ، بل بقرارات صعبة وحاسمة ، تفتح الطريق أمام مصالحة وطنية حقيقية وتضع حداً لسياسة احتكار السلطة الفعلية والنفوذ والمال من قبل مكون واحد ، وتجارب الشعوب ( في يوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا مثلاً ) تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يمكن في بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب أن يدوم حكم مكون واحد ،مهما كان حجم هذا المكون .
وتقع على رئيس الوزراء ،القائد العام للقوات المسلحة ،  صانع القرار الأول في العراق -  الذي منحه الدستور صلاحيات واسعة تكاد ان تكون مطلقة- المسؤولية التأريخية في تصحيح الأوضاع الشاذة في البلاد .
أيها العبادي ، كن على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقك ،  فالتأريخ لن يرحم الحاكم الذي يتقاعس أو يعجزعن القيام بما هو مطلوب منه ، خاصة في الظروف العصيبة ، كالتي يمر بها العراق اليوم .

زجاج الخوف الدامي/ محمد محمد علي جنيدي


عند اختباءِ البدرِ
حزناً من غيومٍ قانية
عند احتباس الحرفِ
خوفاً من وحوشٍ ضارية
عند اصطياد الحرِّ
كالطيرِ البرئ
عند احتجاز الرأي
في قلبٍ جرئ
يبقى فؤادي شاكياً
للهِ عيشاً في عذاب
تبقى الحياةُ كأنها
سجنٌ لأحلامِ الشباب
أبقى هنا
في جوفِ نفسي مستجير
باللهِ من  مستهترٍ
من فوضى أمواتِ الضمير
يا سارقاً حريتي
قل لي لسطوِك من تبيع
إن الزجاجَ إن انفجر
قد يجعل الجاني صريع
إن تأمن اللهَ فقد
أشعلتَ أجنابَ الطريق
وأضعتَ آخرَ فرصةٍ
كانت كطوقٍ للغريق
إني نصحتُك فاعتبر
أو سرْ كما تسري ظلوم
إن الحياةَ ستنتهي
والظلمُ حتماً لن يدوم
 – مصر
m_mohamed_genedy@yahoo.com

الحذر... ما حدث ويحدث في الأقصى أهدافه مشبوهة/ راسم عبيدات

الأقصى بحاجة الى من يحميه ويدافع عنه،فهو يتعرض في ظل تشكل حكومة اليمين الصهيوني المتطرف الى مخاطر جدية وحقيقية،وخصوصاً ونحن نرى محكمة"العدل" العليا الصهيونية تصدر قراراً يجيز للمتطرف "يهودا غليك" بالعودة مجدداً الى إقتحام المسجد الأقصى،وكذلك أقوال الوزراء واعضاء الكنيست من البيت اليهودي "أوري ارئيل" و"نفتالي بينت"،بأنه قريباً سيتمكن اليهود والمستوطنين من أداء شعائرهم وطقوسهم التلمودية والتوراتية بحرية في المسجد الأقصى "جبل الهيكل".
والأقصى ليس بحاجة الى ان تتحول جدرانه الى لوحات إعلانات،وساحاته الى أمكنة للسجالات والمزايدات السياسية والحزبية،والخطب من على منبره من اجل نشر الفتن المذهبية والتحريض المقيت والمنفر والمستفز والماس بالمشاعر والمسيء لكل القيم والأعراف والتعاليم السمحة لديننا الحنيف والباث والزارع للفرقة والشقاق بين أبناء الأمة الواحدة.
الأقصى مكان للعبادة مفتوحة أبوابه لكل عباده من المسلمين،ولا أحد قيم أو مالك او مخول بالتكفير والتخوين أو منح صكوك الإيمان أو التقرير بمن يدخل الجنة او النار،ومن يأتي للمسجد الأقصى لكي يؤدي فروض العبادة والصلاة والإستغفار والتقوى،يجب أن يكون مرحباً به، اما من ياتي بأجندات او اهداف حزبية وسياسية او مذهبية وغيرها،يقوم بالتعبير عنها بالعمل والفعل أو الخطاب التحريضي الفتنوي أو توزيع المنشورات والبيانات ورفع وتعليق اليافطات التي من شأنها خلق الفتن والإقتتال،فهذا يجب التوقف امامه وعدم السماح بمثل هذه الأفعال والأقوال ولأي كان مهما كان يحمل من صفة رسمية او غير رسمية محلية أو عربية وإسلامية،وهناك من نتفق او من نختلف مع ما يحمل من أفكار ومبادىء،ولكن يجب التفريق بين أنه جاء للصلاة أو للتضامن مع الأقصى في ظل ما يتعرض له من هجمة صهيونية شرسة مستهدفة اياه بالتقسيم الزماني والمكاني وإستمرار عمليات الحفر حوله وأسفله وإقامة الأبنية والكنس التوراتية في محيطة وبالقرب منه.
اما من يأتي لكي ينظر ويخطب ويدعم جهة سياسية محلية أو عربية او إسلامية،دورها وموقفها من قضية القدس والأقصى محط خلاف،فهذا يكون خارج محيط الأقصى وساحاته،وخطيب المسجد الأقصى في خطبته يجب أن يكون ذو بعد نظر وصاحب بصر وبصيرة وحكمة،وأن تكون خطبته جامعة وموحدة ووائدة للفتن،تشيد وتثمن موقف كل من يقف الى جانب قضيتنا وقدسنا وأقصانا،بدون أن يكون ثمن هذا الدعم تزلفاً ونفاقاً لهذا النظام او ذالك.الشخصيات غير مرغوب فيها والتي يعتبر قدومها للأقصى يشكل قضية خلافية او أن من شأنه خلق حالة من الإحتراب والخلافات الداخلية وخصوصاً ونحن تحت الإحتلال،يجري التعبير عن رفض قدومها أو دخولها للأقصى خارج حدود وساحات الأقصى،ولا يحق لأي كان أن يمارس البلطجة والعربدة والزعرنة والتهويش والتشويش في الأقصى تحت يافطة وذريعة منع تدنيس الأقصى من الأنجناس،أو من هم مفرطين أو قادمين للتطبيع مع الإحتلال،وكذلك من غير المقبول أن يستخدم الأقصى وساحاته من أجل دعم ومناصرة هذا النظام أو ذاك او هذه الحركة او تلك،فالمواقف المتشنجة لبعض القوى والتيارات الدينية،وحملة الفكر الإقصائي المكفر لكل من يخالفهم الرأي او الفكر،إستمرت في بث سمومها وأفكارها المحرضة على الفتن وإتهام الناس قوى واحزاب وحتى نساء بالكفر وحتى الخيانة والتفريط،ورصيدهم منذ انطلاقتهم وحتى الان لا يتعدى منشورات توزع ويافطات ترفع وخطب تكفر وتخون وتحرض على المذهبية. 
ولم تقف الأمور عند حدود تلك الفئة،بل وجدنا انفسنا العام قبل الماضي وتحديداً في رمضان أمام فتنة محدقة بأقصانا وبمجتمعنا المقدسي،امام إصرار فئة معينة على التنظير والتحريض ورفع صور ويافطات لزعيم عربي صورته لنا على انه الخليفة المنتظر وفاتح القدس ومحرر الأقصى،وبغض النظر من موقفنا منه،فنحن لسنا بطرف او سبب فيما حصل معه من قبل شعبه أو خصومه السياسيين،ولولا حكمة اهل القدس والعقلاء منهم لكنا أمام فتنة حقيقية تاكل الأخضر واليابس، وشهدنا قبل ذلك وبعد زيارات لمسؤولين عرب بمناصب رسمية دينية وسياسية ،كادت زياراتها أن تفجر الأوضاع وايضا أن تخلق ازمات وإرباكات،ولكن دون أن تصل الأمور الى مرحلة الخطر الجدي والحقيقي،بما حدث أثناء زيارة قاضي القضاة الأردني هليل والوفد المرافق له،حيث ان الأمور والأحداث التي حصلت لها أبعاداً خطيرة وتثار حولها الكثير من الشبهات،ولا يمكن بأي شكل من الأشكال قبول وجهة نظر من يقولون بأنه ذلك احتجاج على زيارة الأقصى وهو تحت الإحتلال، او احتجاجاً على المواقف العربية التي لا ترتقي الى مستوى ما يتعرض له الأقصى من مخاطر،فقبل ذلك بأسبوع كان خطيب المسجد الأقصى من المسلمين الأتراك،واعتلى المنبر وتحدث عن دور الدولة العثمانية في دعم القدس والأقصى،وأفاض وأسهب في الحديث عن الخلافة العثمانية،ويا أصحاب الخلافة لا أريد أن اتطرق للأطماع التركية في الوطن العربي وبالذات في سوريا ولا في هدم الخلافة،ولا ما نحن فيه من جهل وتخلف وذل وهوان وضياع!!!،ولكن ما جرى من تشويش على صلاة الجمعة وخلق الكثير من الجلبة والتوتر وإنهاء الصلاة بوقت قياسي وعدم إكمال قسم كبير من المصلين لصلاتهم،يعيدني الى ما جرى في ليلة القدر من رمضان الفائت،حيث منع الإحتلال المسلمين من إحياء ليلة القدر وأغلق المسجد الأقصى،وهذه الفئة الموتورة وبغض النظر عن الجهة التي دفعتها،او أن أفعالها وأقوالها التحريضية والتكفيرية والتخوينية وممارساتها التوتيرية هي التي شكلت بيئة حاضنة لمثل هؤلاء المارقين والمندسين،لكي يخدموا وينفذوا الأجندة التي يريدها الإحتلال،وهذه الأجندة لمن يجهلها في ظل الحكومة الصهيونية المتطرفة،تتلخص في خلق حجج وذرائع لحكومة وقوات الإحتلال للتدخل تحت ذريعة ويافطة توفير اسرائيل الحماية والأمن للزوار الرسميين من عرب ومسلمين وحتى من يحملون صفة رسمية فلسطينية،وهذا يعني إخراج الأقصى من مسؤولية الأوقاف الأردنية،وسيطرة عناصر الأمن الإسرائيلي عليه،بحيث يتحكمون بالأقصى من حيث دخول وخروج المصلين وحركة الأبواب واوقات الفتح والإغلاق ومن يسمح له بالدخول او لا يسمح له،وتشريع عمليتا التقسيم الزماني والمكاني،وممارسة المستوطنين لطقوسهم التلمودية والتوراتية فيه.
الأقصى يا ابناء شعبنا الفلسطيني،والذين انتم تتحملون مسؤولية حمايته والدفاع عنه نيابة عن امة هي كغثاء السيل تعد مليار ونصف مسلم،انتم مطالبون بنبذ خلافاتكم وفرقتكم،فالأقصى أقولها وأكررها بحاجة الى من يحميه ويدافع عنه،فهو يتعرض لخطر جدي،وليس بحاجة الى ان تتحول جدرانه الى لوحات إعلانات،وساحاته الى أمكنة للسجالات والمزايدات السياسية والحزبية،والخطب من على منبره من اجل نشر الفتن وبث الفرقة والشقاق بين أبناء الأمة الواحدة.
والمسؤولية عن الأقصى بالضرورة في هذه المرحلة والظروف العصبية،أن لا تقتصر على الأوقاف الإسلامية،وإن كانت هي من يتحمل المسؤولية المباشرة عن ذلك،فكل الوان الطيف السياسي والمجتمعي الفلسطيني،يجب أن تكون جزء من هذه المسؤولية،يضاف لذلك المسؤولية العربية والإسلامية،وهنا الحكومة الأردنية يقع عليها دور أساسي،حيث هي صاحبة الرعاية والمسؤولية عن المقدسات الإسلامية والمسيحية وفق الإتفاق الفلسطيني- الأردني في 31/2/2013 .

اقتربت "داعش" من مدينة تدمـــر السورية ، فهل من منقــــذ?/ الدكتور حمدى حمودة

بعد أن عاست فسادا فى مدن العراق الأثرية والتاريخية البابلية والأشورية وحرقت مدن بأكملها ونهبت وسلبت أربعة ألف قطعة أثرية من العراق وحدها غير ما استولت عليه من قبل من المدن الأثرية والكنائس السورية والتى بيعت جميعها فى تركيا واسرائيل بمليارات الدولارات ولم يتحرك أى من الحكومات العربية لأنقاذ هذه الآثار والتراث بصرف النظر ان كان مع أوضد هذه النظم وسياستها .
خمسة سنوات والهجمة الشرسة على العراق وسوريا من جماعات تكفيرية تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية ودول خليجية يشترون السلاح منها ومن دول أوروبية بالمليارات على مدى السنوات الخمس بحجة الحفاظ على امن الخليج القومى لكى توافق واشنطن وباريس ولندن مؤخرا على اعتبار أن أمن الخليج من أمن هذه البلاد بعد ان قامت كل من الرياض والدوحة والأمارات بعقد صفقات سلاح متطور تمد به التكفيرين " داعش والنصرة والفتح الأسلامى ... الخ" ولكن الأغرب من هذا كله أن يطلب أمراء الخليج الذين اجتمعوا فى " كامب دفيد " مع الرئيس الأمريكى الأسبوع الفائت عمل اتفاقية دفاع مشترك بينهم وبين واشنطن ، الا ان الرئيس الأمريكى كان على قدر كبير من الذكاء عندما طمأنهم بالعبارة التى قالها أكثر من مرة ( أن أمن الخليج من أمن الولايات المتحدة ) فزادهم عضبا على  غضب ، خاصة وأن الذى حضر هذا اللقاء اثنين من الأمراء فقط واكتفت الدول الباقية بارسال أولياء العهد وعلى رأسهم الجزيزة العربية التى ادعى الملك أنه مشغول بمتابعة الحلف المعتدى على اليمن والذى قام بضرب المشافى والمساجد والآثار مما أدى الى استشهاد أربعة آلاف من الشيوخ والنساء والأطفال واصابة الآلاف من المدنين الذين لا حول لهم ولاقوة ،علاوة على ضرب المطارات المدنية وهدم آلاف المنازل على رؤوس أصحابها ( الملك يتابع ) أما ملك البحرين اعتذر لسفره المفاجئ الى لندن لمتابعة سباق الخيل .! 
وهكذا يستمر الحريق العربى الذى أشعلته واشنطن وتل أبيب ودول الخليج ليدمردولة تلى الأخرى ، ولولا أن لمصر مكانة وقوة فى العالم العربى لتمكنت منها قوى الشر وكذلك تونس ، والسؤال هنا ، أين ليبيا اليوم ؟ ومن طالب بقدوم الناتو اليها لتدميرها .؟ أين العراق اليوم منذ أن غزتها واشنطن 2003 ، لقد قلنا أن غزو العراق هو مفتاح اجتياح الشرق الأوسط ، وهذا ما كان بالفعل ، من العراق الى لبنان 2006 ومن لبنان الى سوريا بعد تجييش الجيوش التكفيرية عليها وعلى العراق ثم أخيرا على اليمن والحجج على ذلك كثيرة ولا تنتهى ، أول هذه الحجج هو تمدد ايران فى المنطقة حيث أنهم يدعون انها احتلت العراق وسوريا ولبنان واليمن ، وهذا عجيب بالفعل ، ألم يسأل هؤلاء المدعين أنهم تخلوا عن عروبتهم وأيدلوجياتهم بالتقرب من واشنطن وتل أبيب بعدما تخلوا عن القضية الفلسطينية والحصار الجائر الذى فرضته اسرائيل على قطاع غزة بعد اعتدائها المتكرر عليها من 2008 الى 2014 والصمت العربى كان هو السمة الكبرى، بل الأدهى من ذلك أن طلبت بعض دول الخليج من اسرائيل القضاء على غزة ومن فيها كما طلبت دول عربية منها عند حربها على لبنان ألا توقف الحرب قبل القضاء على حزب الله ! ألم يقفوا مكتوفى الأيدى بل والموافقة على غزو واششنطن للعراق ؟ ألم يتآمروا على سوريا بحجة اسقاط النظام ؟ أليس هذا تدخلا سافرا فى شئون دولة عربية لديها سيادة وعضو فى الأمم المتحدة وعضو مؤسس فى الجامعة العربية ؟ ألم يتدخلوا فى شئون مصر قبل وبعد 25 يناير خاصة قطر والرياض ؟ ألم تحكم الرياض اليمن منذ عقود وعندما استفاق الشعب اليمنى الى نفسه واراد أن يتحرر من قبضة الرياض وواشنطن تحالفوا عليه .؟ 
لقد قصدت سرد كل هذه القضايا لأقول بأنهم عندما تخلوا عن واجباتهم تجاه أمتهم وتخليهم عن عروبتهم أتاحوا الفرصة وأفسحوا المجال لأيران بالتدخل لأنقاذ ما يمكن انقاذه ولمساعدة غزة على صد العدوان والخلاص من الحصار المبرم عليها اسرائيليا وعربيا ! وهكذا فعلوا مع لبنان عنما شنت الحرب عليها اسرائيل لتممكن الولايات المتحدة من تطبيق خارطة الشرق الأوسط الجديد والذى بشرت به " رايس " وزيرة الخارجية الأمريكية بعد اسبوع من الحرب ظنا منها بأن تل أبيب ستحسم الحرب لصالحها ! وبالمثل فعلت مع كل من العراق وسوريا واليمن عندما وجدت الأمة العربية تتخلى عن هذه الدول حلت هى محلهم لكونهم أفسحوا لها المجال ، وفى نفس الوقت فعلت هذه الدول بتحالفها مع ايران عندما تخلت عنها أشقائها بل وعادتها وتحالفت مع العدو الأكبر " اسرائيل " عيانا بيانا دون اى خشية ولا حتى خوف من الله ، لايخف اليوم على أى مواطن فى العالم العربى أو الأسلامى التقارب الذى حدث بين بعض الدول العربية والخليجية وبين اسرائيل .! فلماذا نوجه التهم الى ايران ونحن الذين فتحنا الباب على مصرعيه لها ؟ ولماذا هذا الخوف المغالى فيه تجاه ايران ؟ أليست هذه هى ايران التى كان يحكمها الشاه والتى كان لايسمح لأى من هذه الدول أن تقول عن الخليج الفارسى كم يقولون اليوم بكل حرية الخليج العربى ، لماذا لأنهم كانوا يخافون الرجل ويعملون له الف حساب لكونه حليفا قويا لواشنطن .! ايران قامت بثورة وخلال ثلاثة وثلاثون سنة أصبحت دولة نووية ومؤسسات اقتصادية كبيرة تحوم حولها الدول الغربية كبيرها وصغيرها حتى الولايات المتحدة تعيد ترتيب العلاقات الدبلوماسية معها مرة أخرى ، فماذا حقننا نحن منذ الأستقلال وحتى اليوم ؟ مذا حققت دول الخليج التى تجنى ثروات هائلة من وراء البترول ؟ لم تفعل شيئا غير التشيد والبناء والأستتثمارات بالمليارات فى دول الغرب والتخلى تماما عن الدول العربية والأسلامية الفقيرة مثل الصومال وجيبوتى واليمن المهضوم حقه على مر هذه السنين .!
سوريا تعيش المحنة منذ خمس سنوات وحيدة من بين اثنين وعشرون دولة عربية يضمهم جامعة عربية تفرق ولا توحد ، استكثروا عليها أن تحالفها ايران وروسيا والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا وكوبا والأرجنتين ، لقد تخلت عنها أشقائها لكونهامتمسكة بعروبتها ولأنها تحمل راية العروبة حتى اليوم أى كان من يحكمها ، والذين يتناسون التاريخ ، أحب أن أذكرهم أن صلاح الدين الأيوبى ( كردى سورى ) هزم الصليبين وأعاد بيت المقدس ، واليوم أين بيت المقدس .؟ وللتاريخ سوريا هى من ردت العدوان المغولى والتتارى ومعها مصر على مر التاريخ .! فهل من منقذ لدولة تدمر التى تأسست قبل الميلاد بخمسمائة ألف سنة .؟                                                                                       

عندما يصحو القضاة/ جواد بولس

قرأنا قبل مدّة عن استنفار بعض رؤساء محكمة العدل العليا السابقين ورئيستها الحالية، القاضية مريام ناؤور، وشاهدناهم وهم يرفعون أصواتهم محذّرين، مما تخطّطه القوى اليمينية في إسرائيل، والتي تستعد لإنزال ضربتها القاضية، وتحجيم مكانة وسلطة المحكمة العليا، وذلك في مسارين خطيرين، كما صرّح عنهما، جهارةً، بعض غلاة اليمين، وبدون خجل ولا تردد:
الأول، السعي لتغيير تركيبة اللجنة الخاصة بانتخاب القضاة، عن طريق إضافة أعضاء كنيست يمثلون قوى اليمين المتشدّد، وبذلك يتم تأمين أكثرية حزبية تكون لها الغلبة في تحديد هويّة القضاة المنتخبين ، وفقًا لولاءاتهم السياسية، وليس على أسس مهنية وموضوعية، كما هو مطلوب ومتّبع.
والثاني، العمل في الكنيست من أجل استصدار تشريع تُمنع بموجبه المحكمة العليا من التدخل في عملية التشريع، ويحظر عليها إلغاء أي قانون لأي سبب كان، حتى لو كان قانونًا عنصريًا يتعارض بشكل واضح مع مبادئ المساواة والعدل، كما قررت هذه المحكمة ونجحت في الماضي بشكل نسبي ومحدود جدًا.      
لست في معرض التأريخ لمسيرة الجهاز القضائي الإسرائيلي، ولكن، لا بأس أن أذكّر بأمنيات بُناته في زمن البدايات، حين شرع، مباشرة بعد النكبة، مؤسسو ما كان حينها يعرّف بالكيان الصهيوني المزعوم، بتشييد حلمهم المستورد من أهراء الخير في أوروبا البيضاء المنتصرة على الشيطان، وسارعوا لأقامة محكمة العدل العليا وهيّأوها لتكون ساقية تملأ صحاري الشرق عدلًا زلالًا، وتفاخروا بها عروسًا تزيّن ليل مدينة لبست الحزن تاجًا والوجع؛ أرادوها حصن عدالة ضائعة، وبيت حكمة موروثة عن أجداد مضوا وتركوا للبشرية حروفًا وإغواء "عجل من الذهب"، ومنارة، تضيء سماء بلاد لم تعرف إلا الاستبداد طريقة للحكم، فاستوطن الخوف قلوب أبنائها والفقر ملأ خوابيها.   

لم يدم حلم المنتصرين طويلًا. فعلى الأرض بقيت أقلّية عربية طينها من هنا، من هذه التلاع، ولم تخدعها نداءات الثعالب، ولا أوقعها شعر الفروسية والحماسة ولا دردبة الطبول؛ أقلية ساستها قيادة حكيمة مجربة لم ترقص على تناويح حداة شمألوا، ولا على لهب النشيد الذي كان يؤكد أنه على "باب قدس تدق الأكف ويعلو الضجيج".
كان الباقون قليلين، ولكنهم كانوا بحجم البرهان الكافي لتكذيب زيف الرواية وفضح هول المؤامرة والكشف عن عمق المأساة. عشرات الآلاف من سكان البلاد الأصليين حاكوا بمغازل قهرهم وملاحقتهم قصة شعب أرادوا له أن يصير كالغمام.      
لم يستوعب قضاة المحكمة العليا تلك الحقيقة، تجاهلوها وتنكّروا للواقع، فصاروا حكّام محكمة مستعلية سقط العدل عنها، فطفقوا مع قادة الدولة الوليدة المنتشين بخمر نصرهم، يعزفون على "قوانينهم" ألحانا أدمت قلوبًا ومزقت الأوتار. 
دروب آلام المواطنين العرب في هذه البلاد مرّت من أروقة هذه المحكمة، وسيأتي يوم يقوم فيه الباحثون باقتفاء مواطن الظلم الذي عشش في صدور قاعاتها وقضى على آمال كثيرين استنجدوا بعدل قضاتها، ساعة كان هؤلاء، فعليا، كإخوتهم، مستريبين من مجرد بقاء مواطنين عرب في دولة تمنوا لو جاءت يهودية خالصة. 
لا شيء كالعنجهية يعمي عيون البشر ويجرد القلوب من دفئها. وأنصاف العدل كانت دومًا دروبًا للشيطان وأعوانه الظالمين، هكذا كان منذ بدأ الانسان مسيرة الحضارة والتقدم، وإسرائيل، مهما تجبّرت، لن تشذ عمّا علّمنا إيّاه التاريخ وبكاء الجن على الأرض! ففي كل قضيّة خاطبنا فيها قضاة المحكمة  أكدنا أننا كأقلية مستهدفة قد نكون أول الضحايا، ولكننا لن نكون آخرها، وأكدنا لهم كذلك، طيلة عقود، أنهم، ساعة يفتحون الأبواب ليمرروا قانونًا عنصريًا بحقنا، نحن العرب،  وليسوّغوا قرارًا تعسفيًا ضدنا، يشرّعون عمليًا، بوابات للظالمين ويزرعون  أجنّة للشياطين التي لن تترك أحدًا لن يسجد لها صاغرًا حزينًا. 

ومضت سنوات القحط عجافًا سبعًا وراءها ستون حتى بدأ مؤخرًا بعض قضاة المحاكم وآخرون ينحدرون من شرائح عديدة في المجتمع الإسرائيلي، يشعرون بانتشار تلك الأعشاب السامة في كل جهة وناحية، وبدأوا يخافون حصارها الخانق.
منذ سنوات بدت صورة المجتمع الاسرائيلي تتكشف بعوراتها والبلطجيون تقدموا حتى باتوا على عتبات البيوت، ولم يعد يهمهم تاريخ ضحيتهم ولا مكانتها، فكل آخر مغاير  هو عدو، وكل من ليس معهم فهو ضدهم  ويصير هدفًا ملاحقًا حتى الركوع أو الفناء. 
عشرات من الاعتداءات مرّت كسحابات صيف، لم يكترث لها أحد،فلقد كانت ضحاياها عربية لم تسترع رمشة أو تنهيدة، ولكن عندما حاولوا قتل مفكر عالم كزئيف شطيرنهال بدأت وساوس الخوف تحرك بعضهم، وعندما هاجم وحش من سائبة تلك الفرق بيت يهونتان جيفن وهو رمز من رموز ثقافتهم وأيقونة صهيونية خالصة واعتدى عليه مباشرةً، استُنفر بعضهم الآخر، وعندما اعترضوا درب أحينوعام نيني وهي من خيرة وأشهر مغنّياتهم تأهب بعضهم وخاف.
ها هو صوت الخوف يجلجل في بعض جيوب المجتمع  الإسرائيلي، فمئات مثل رئيس المحكمة العليا السابق،أهرون باراك، لا يخفون قلقهم من الهاوية التي بدأوا يرونها قريبة، ومن محاولات تدمير ما تبقى من بقايا قيم إنسانية سينتهي أجلها عندما سينجح المستبدون الجدد بتدجين قضاة المحكمة العليا علمًا بأن بعضهم دخلوها مدجنين آمنين. 
أمّا نحن، عرب هذه الديار، فلن يفيدنا الخوف، ولكن سنستفيد حتمًا إذا تحالفنا مع من صحوا منهم وباتوا يخافون على مصائرهم ومصائر أولادهم.    

شكرا جزيلأ لمؤسسة -الحوار المتمدن/ مجدى نجيب وهبة

*أقل ما يمكن أن أفعلة هو تقديم الشكر والأمتنان الى المؤسسة المتميزة "الحوار المتمدن" والتى تشرفت بأرسال مقالاتى السياسة اليها .لم ترفض نشر أى مقال ولم تنحاز لأى جهة ضد الاخرى ..هو موقع بالفعل متميز لكل اصحاب الرأى كتاب وصحفيين ..وموقع متميز لكل التيارات الفكرية اللبرالية واليسارية المعتدلة وليست المتطرفة ..موقع يتيح للجميع كتابة ارأهم بكل حرية بشرط واحد هو عدم الاساءة للأخرين حقا انة منبر لكل القراء ويعطى حرية التعليق على المقالات دون التدخل أو فرض وصاية من أحد .
**بدأت علاقتى بهذا الموقع المتميز ربما تكون علاقة حديثة والتى بدأت فى 26/12/2011 رغم ان علاقتى بالصافة بدأ مبكرا منذ عام 1984 ..وتناقلت مقالاتى فى العديد من الصحف والمجلات المصرية كانت أكثرها المقالات التى تشرفت بكتابتها فى مؤسسة روزاليوسف "المجلة" ومجلة "صباح الخير" قبل ان تصدر مؤسسة روزاليوسف الجريدة اليومية كما نشرت مقالات عديدة فى جريدة الدستور وصوت الأمة والمصرى اليوم وعندما قررت ان يكون لى جريدة مستقلة قمت بأستخراج رخصة للصحيفة الورقية باسم "النهر الخالد" تميزت هذة الجريدة بالجانب السياسى وبعض الاخبار الكنسية حتى نتمكن من بيعها فى الكنائس والتى كانت تلاقى اقبال كبير جدا فى بعض الكنائس وترفضها بعض الكنائس الاخرى بدون سبب ولكن علمت بعد ذلك ان السبب توصيات بعض اصحاب الصحف المنافسة كانت بتسليط بعض الكنائس وتحريضها بعدم طرح صحيفتنا للبيع .. وبعد اندلاع وكسة 25 يناير التى اعتقدت فى اللحظات الاولى من انطلاقها انها ثورة عظيمة إلا إننى اكتشفت بعد ساعات انها مؤامرة كبرى لاسقاط مصر ..فلم يكن امامى خيار للأنتظار لمدة 15 يوما حتى اصدر العدد التالى من الصحيفة الورقية "النهر الخالد" بل اتجهت فورا للصحافة الالكترونية لأنها كانت اوسع انتشارا ليس فى مصر بل فى كل دول العالم ..كانت تاتينى رسائل من روسيا ومن استراليا ومن امريكا ومن كل القراء فى كل دول العالم تعليقا على مقالاتى وأن اصرخ واطالب الشعب المصرى بالنزول الى الشوارع للوقوف ضد أهداف امريكا وانا اراها تتأمر باستخدام الاخوان لضرب الدولة المصرية وتقسيم الوطن ..انقسم قراء مقالاتى الى فريقين فريق يؤيدنى ويطالبنى بالمزيد من الكتابة وفريق يوجهة لى الشتائم والبذاءات ..حتى وصل تهديد لى من الموقع الالكترونى لفريق التواصل للرئيس الامريكى "باراك حسين اوباما" كانت مقالاتى تنشرعلى مواقع عديدة اكثر هذة المواقع هو "الحق والضلال" ولكن كان هناك من يتعمد فى كل مرة الاساءة لى وصلت الى حد السباب بالأم والأب وقد وصل عدد قرائى بموقع "الحق والضلال " الى اكثر من عشرين الف قارىء للمقال الواحد ..كما تشرفت بنشر مقالاتى بموقع الاقباط المتحدون هذا الموقع المتميز ثم "الاقباط الاحرار" ثم أقباط دوت.كوم" وجريدة "الغربة البنانية" ثم فى موقعنا المتواضع "صوت الأقباط المصريين" ألالاف المقالات التى لا استطيع حصرها ولا استطيع ان احصر عدد القراء فى كل الصحف والمواقع الاليكترونية وبالخصوص المقالات التى كنت أكتبها اسبوعيا فى مجلة "روزاليوسف" ..أما عن علاقتى بموقع ومؤسسة "الحوار المتمدن" فقد بدأ تعاملى مع هذا الموقع المحترم بتاريخ 26/12/2011 كان بعنوان "السيناريو القادم ..اغتيالات لقادة المجلس العسكرى والشرطة ..والسياسين. وهو ما يحدث اليوم !!لا أتحدث عن مقالاتى ولكن أقول كلمة واحدة اننى لم اكتب حرف واحد أو سطر واحد لم يحدث ..حتى ان بعض اصدقائى فى بداية احداث 25 يناير كانوا يصابو بالخوف والرعب وانا اتحدث عن سيناريو الأيام القادمة ..كما اؤكد ان هناك بعض الجهات التى عرفت فيما بعد انها جهات أمنية كانو يتابعون قراءة كل ما اكتبة ولكنهم يبدو انهم توقفوا عن القراءة بعد ثورة 30 يونيو العظيمة رغم ان مصر مازالت فى حالة حرب قصوى بعد ان فقدت امريكا التحكم فى تصرفاتها وقراراتها ..اكتب ذلك اليوم بعد وصل عدد القراء فى موقع "الحوار المتمدن الى "مليون و6 الآف قارىء" 
فانا أقدم التحية للقائمين على هذا الموقع المتويز وهم يستقبلون لى المقال رقم719 شكرا مرة اخرى وشكرا لكل القراء الذين شرفونى بمتبعاتهم لكل مقالاتى المنشورة

ميزانية الإستثمار السياسي/ عباس علي مراد

كان اسبوع الميزانية حافلاً بالتعليقات والتحليلات عن الرابحين والخاسرين، وكيف سيكون وقع الميزانية، ورود الأفعال عليها من النواحي الإقتصادية والسياسية والمصلحة الوطنية.
بعد ميزانية العام الماضي، والتي لاقت ردود أفعال سلبية لدى الناخبين وعدم موافقة مجلس الشيوخ على بعضها  لما حملته من نقض لوعود انتخابية  مثل فرض رسوم على زيارة الطبيب او زيادة الرسوم الجامعية  واقتطاع 80 مليار دولار من تقديمات الحكومة الفيدرالية للولايات المخصصة لقطاعي الصحة والتعليم، وعدم منح علاوات البطالة لمدة 6 أشهر لمن هم دون سن 30 وغيرها، والتي كان ينوي من خلالها وزير الخزينة جو حقي وقف عصر المستحقات، كما كان قد وعد قبل وصول الإئتلاف (احرار - وطني) الى السلطة عام 2013. كادت التداعيات السياسية لتلك الميزانية ان تطيح بزعامة رئيس الوزراء لدرجة ان طرحت الثقة به داخل مجلس الحزب وكان الفارق بالأصوات بينه وبين الخسارة 12 صوتاً علماً ان التحدي حصل من دون منافس.
منذ ذلك الوقت، بدأ رئيس الوزراء مقاربة جديدة واعداً زملاءه بأنه سيستمع الى آرائهم واجرى تعديلاً وزارياً كان نوعاً من المناقلات بين الوزراء دون ادخال وجوه جديدة. العملية اعتبرت نوعاً من المكافأة السياسية لزملائه الذين دعموه بعد طرح الثقة به.
كأي سياسي، وضع رئيس الوزراء نصب عينيه هدفين، اولهما البقاء على رأس الفريق الحكومي، وثانيهما تحسين ظروف الحكومة بالعودة الى الحكم دروة ثانية. بدأ ذلك بسلسلة من التراجعات كان ابرزها ترك خطته السخية لمكافأة الأمهات العاملات من خلال علاوة اجازة الأبوة والأمومة والتي كانت ستدفع 75 ألف دولار عن 6 أشهر لكل امرأة تحصل على إجازة الأمومة وقد خفص المبلغ لاحقاً الى 50 ألفاً ليعود رئيس الوزراء ويتخلى كلياً عن العلاوة، حتى ان الحكومة في ميزانيتها الجديدة للعام المالي 2015-2016 قررت وقف العمل بقوانين إجازة الأمومة المعمول بها حالياً، حيث تحصل العائلة المستحقة على العلاوة المقدمة من الحكومة (18 شهراً بمعاش الحد الأدنى) بالإضافة الى العلاوة التي يقدمها أرباب العمل حيث لم يعد بالامكان الحصول الا على علاوة واحدة.
رئيس الوزراء وقبل تقديم ميزانية حكومته الثانية، قال ان الميزانية ستكون "مملة" لكن الميزانية كانت كل شيء الا مملة وعلى اكثر من صعيد، على الصعيد المالي وبعد ان اعلنت الحكومة العام الماضي حالة طوارئ مالية لسد العجز في المزانية ووقف تضخم الدين العام، نراها تعتمد سياسة مالية كلها محفزات وبعيدة كل البعد عن التقشف وشبيهة بالتقديمات التي قدمتها كحومة كيفن راد اثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008-2009 وان اقتصرت على قطاعات بعينها كالمصالح الصغيرة التي حصلت على مبلغ 5.5 مليار دولار، او قطاع رعاية الأطفال الذي حصل على 4.4 مليار علماً ان الثانية سيبدأ العمل بها العام 2017، هذه التقديمات وغيرها سترفع العجز الى 35 مليار دولار حسب التوقعات الحكومية وان الدين العام سيرتفع الى 18% من الدخل الوطني.
على صعيد اصلاح النظام الضريبي، لم تأتِ الميزانية لا من قريب ولا من بعيد على ذكر الموضوع خصوصاً الجانب المتعلق بالتسهيلات الضريبية للمستثمرين في القطاع العقاري المعروف (بنيكاتيف غيرينك) او الأرباح على رأس المال او الإعفاءات الضريبية على قطاع معاشات الإدخار التقاعدي للإغنياء او تعديل ضريبة السلع والخدمات (جي أس تي).
 على صعيد قطاع التوظيف ورغم ارتفاع الإنفاق الحكومي فإن الحكومة تتوقع ارتفاع نسبة البطالة عن معدلها الحالي 6.3% خصوصا اذا لم يصل النمو الاقتصادي الى المستوى الذي تتوقعه الحكومة 3.5%.
أما على الصعيد السياسي وهنا مربط الفرس، فقد حرّكت الميزانية الرهانات عن امكانية اقدام الحكومة على حل مزدوج للبرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ) والذهاب الى انتخابات مبكرة، وهذا ما يتطلب فترة انتظار لا تقل عن ثلاثة الى اربعة أشهر لمعرفة درة فعل الناخبين على الميزانية من خلال استطلاعات الرأي، والتي بدأت تأتي ثمارها، فحسب استطلاع  فيرفاكس ايبسوس الذي نشرته صحيفة ذي سدني مورننغ هيرالد الاثنين 18/5/2015 فقد تحسنت شعبية الحكومة لتتساوي مع شعبية المعارضة 50-50 لأول مرة منذ شباط العام الماضي، وجاء في الاستطلاع ايضا ان رئيس الوزراء تقدم على زعيم المعارضة كمفضل لرئاسة الوزراء بنسبة44% مقابل 39%. وقد بدأ الحديث عن امكانية الاستفادة من تحسن الوضع الحكومي بعد الميزانية واستغلال هذه الفرصة للذهاب الى انتخابات مبكرة خوفا من تبخر الدفع الذي حصلت عليه الحكومة وفقدان اية امكانية للحد من العجز بالميزانية في العام 2016 مما يجعل الحكومة مكشوفة سياسياً. وهنا لا بد من التساؤل عن اهم عقبات الذهاب الى انتخابات مبكرة ابرزها هل يقدم رئيس الوزراء على المجازفه بمنصبه مع انه يرغب باتمام الفترة الكاملة لحكومته رغم ان الميزانية اعادة له توازنه السياسي؟ 
المعارضة الفيدرالية في ردّها على الميزانية دخلت في سباق سياسي محموم مع الحكومة، ففي الوقت الذي دعم فيه زعيم المعارضة بيل شورتن التقديمات لأصحاب المصالح الصغيرة وبرامج رعاية الأطفال والديون المخفضة للمزارعين، الا انه ذهب ابعد من الحكومة بالنسبة للتخفيضات الضريبية على المصالح الصغيرة من 30% الى 25% علماً ان الحكومة وعدت بتخفيض 1.5% فقط. ودعى زعيم المعارضة الى تشجيع المزيد من الطلاب في الحصول على الشهادات في مجالات الهندسة والتكنولوجيا، العلوم والرياضيات متعهداً بإعفاء 100 ألف طالب من كل الرسوم، ودعى شورتن الى انفاق 3% من الدخل القومي على الأبحاث العلمية. واعتبر شورتن ان الحكومة عملت على إعادة تغليف الميزانية السابقة خصوصاً في ما يتعلق بالرسوم الجامعية واقتطاع مبلغ 80 مليار عن الولايات الذي لم تأتي على ذكرها في الميزانية الحالية، ورأى ان الميزانية تهدف الى المحافظة على وظيفة شخص واحد هو طوني أبوت.
وفي معرض ردها على الميزانية  وكما فعلت الحكومة لم تأتِ  المعارضة على ذكر الإصلاح الضريبي ما خلى التطرق الى امكانية فرض ضرائب على تقديمات معاشات الإدخار للأغنياء.
الملاحظ هنا، ان الحكومة و المعارضة لم تعلنا عن كيفية تمويل المشاريع والإنفاق الا بالمزيد من الإستدانة والمزيد من العجز. ورأى الخبير بشؤون الميزانية كريس رتشردسون من مؤسسة (ديلوات اكسس الإقتصادية) ان لا حل لهذه المعضلة الا بعمل الحزبين معاً (س م ه 16/أيار/2015 قسم ما وراء الأخبار ص 28) هذا مع العلم بأن متوسط الدين في دول منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية يبلغ 70% من الدخل القومي بينما سيبلغ في استراليا 18% وبرأيي فإن هذا يجب الا يكون دعوة للإسترخاء المالي والنقدي والإقتصادي، او اتباع سياسة تمويه مالية كما قالت المحللة الإقتصادية آديل فيركسون التي عنونت مقالتها "الدفعات النقدية جزء من المهزلة المالية" (س م ه 13/05/2015 ص 11).
يبدو ان اهم الخاسرين من الميزانية هو الإصلاح المالي والإقتصادي الحقيقي البعيد المدى، حيث ان اولويات الحكومة حل مشاكلها السياسية، وهذا ما يؤكده رئيس الوزراء الأسبق الأحراري جان هاورد الذي رأى ان الميزانية اخذت بالإعتبار "الحساسية السياسية" ويذهب بهذا الأتجاه محرر الشؤون السياسية في صحيفة سدني مورنيغ هيرالد بيتر هارتشر الذي قال:" ان ضحايا الطموح السياسي لأبوت هو الطموح المالي (س م ه 13/05/2015 ص 16).
أخيراً اعتقد ان الناخب الأسترالي يملك قدرة التمييز بين السياسات الغثة والسياسات البناءة، وانه على استعداد للتضحية في حال وجد الزعيم الذي يصارحه بالحقائق مسبقاً، فحتى يأتي هذا الزعيم (هو او هي) علينا الإنتظار مع المزيد من الديون والعجز في الميزانية مع استمرار الحفلات التنكرية الإنفاقية.

سدني- استراليا
Email:abbasmorad@hotmail.com

وصية شهيد/ اشرف دوس‏

مودعون أبنائهم وزوجاتهم كالمسافرين بلا عودة، حاملين أكفانهم بين أيديهم، يتوجه المئات من ضباط ومجندي مصر الأخيار إلى "أرض الفيروز" بسيناء الغالية دفاعا عن شرف ينتهك وأرض تغتصب على يد أعداء الدين والإنسانية.

حينها تمتزج الدموع بالدعوات، ويساور القلق النفوس في الصلوات، فبين امرأة تناجي خالقها وتبتهل إليه أن يحفظ لها زوجها وأم تدعو لعودة ولدها، وبين طفل صغير لم يمهله القدر أن ينهل من نهر حنان والده، يستيقظ جميعهم على واقع أسوأ ما سمعت آذانهم، وأشد ما قرأته أعينهم إيلاما للنفس، جملة واحدة تكررت مرارا تكاد لا تتعدى في كلماتها أصابع اليد الواحدة، أضحت مرادفا لمعاني الألم والحزن، كما هي مدعاة للفخر والاعتزاز.. «استشهاد ضباط وجنود في تفجيرات بسيناء».وهذة وصية واحدمن الشهداء
أهل بيتى الأعزاء.. أوصيكم بالتوحيد الخالص لله.. والحذر من الوقوع فى الشرك.. أوصيكم بالصبر والرضا عند الصدمة الأولى.. وتقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا فى مصيبتنا وأخلف لنا خيرًا منها.
أوصى أولادى بألا يزيد الحداد على 3 أيام، وعلى زوجتى أن تحد 4 أشهر وعشرًا، ولا تلبس فيها الحرير، ولا الملون ولا تكتحل ولا تتعطر ولا تتزين. وزيارة قبرى والدعاء والاستغفار لى، والاعتبار والاتعاظ بالموت. و يذكرونى بالخير، والدعاء والاستغفار لى فى أوقات صلتهم بالله، بأن يجيرنى الله من عذاب القبر وعذاب النار، ويدخلنى برحمته الجنة.
يا أهل بيتى الأعزاء.. اصبروا فإنى أحب لقاء الله وأحسن الظن به ولقنونى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" برفق وهدوء، حتى تكون آخر كلمة ألقى بها ربى. إن كنت فى معركة لا يغسلنى أحد، بل لفونى فى ثيابى وادفنونى بدمى، واتركونى على حالتى، وادفنونى فى البلد الذى مت فيه بدون تكلف أو مشقة.
أوصى بتوزيع الميراث حسب شرع الله، وبما يرضى الله، وكونوا يا أحبابى متحابين لبعضكم البعض، وسوف يدرككم الموت مثلى.. اعملوا لهذا اليوم تسعدوا.. وتلقوا الله عز وجل آمنين مطمئنين. وأوصى بتخصيص جزء من مالى لعمل سبيل كصدقة جارية على روحى، وأوصى كل من يعرفنى أن يدعو لى بالرحمة

فيوم القيامة ينادى الحق تبارك وتعالى: "أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى". وإنى أبرأ من كل فعل أو قول يخالف شرع الله وسنه نبيه.. وأستودعكم الله الذى لا تضيع ودائعه. 

الفنان بين اتساع نطاق التسمية وتقلص رقعة المعنى/ د زهير الويلدي

" الفنان الحر ... ينوء بعبء مهمة تجعل منه شخصية ملتبسة"[1]

لا يخفي على أحد تراجع الإبداع والجمال ، ولا يمكن انكار ندرة الإنتاج الثقافي الحامل للمعنى والمعبر عن القيم المطلقة والروائع الخالدة. ولقد أثار هذا الوضع الفني المتأزم أكثر من علامة استغراب حول أسباب تراجع الاهتمام بالذوق والابقاء على روعة الجمال طي الكتمان ، وقد تساءل الناقدين حول تأثير التقنية والتجارة ووسائل الاتصال الحديثة  في تفجير أزمة الانحطاط وتمزيق الصورة الناصعة للفنان التي تشكلت مع الحداثة الجمالية وحول الظروف التي هيئت تجفيف منابع الابداع وأدت الى انتشار الرداءة في أروقة الفنون وأصابت النفوس بالجدب والتصحر والتعثر في الارتقاء بالوضع البشري إلى مستوى الكائن الثقافي والشخصية الخلاقة. لقد حاول بعض الفنانين في الحقبة المعاصرة التمرد على السائد والخروج من الأنماط الصارمة والقوالب الجاهزة وبذلوا جهودا لكي يتفادوا السير في المتاهات وانخرطوا في أفعال مواجهة القبح الطبيعي اليومي، وقاوموا ظاهرة اختفاء الجمال في الأعمال الفنية من جهة المبدع والمتلقي.

 في هذا الإطار اهتمت الإستيطيقا المعاصرة بنفسية الفنان واعتبرته الفاعل الفني الأول وصاحب الدور الفعال والايجابي في تجربة الخلق الفني وأسندت له صفات الإلهام والعبقرية ونظرت اليه بإعجاب وثناء . أما علم الجمال النفسي فبحث في الآثار الفنية من جهة كونها وثائق نفسية تكشف عن طبيعة صانعيها أو عن طبيعة الجمهور الذي يتذوقها. من المعلوم التاريخي أن فكرة الإبداعية الحقيقية كانت غائبة تماما عن الفنان في العصر الإغريقي وكانت تنسب في الغالب إلى الآلهة ولكن الفنون الجميلة في عصر النهضة  هيئت الأرضية لحدوث قطيعة ابستيمولوجية وثورة كوبرنيكية في مجال الفن بأن ظهرت النظرة الثاقبة عند الفنان وبرزت الحاجة إلى إحداث التحولات في تقنيات الابداع الجمالي والتكلم باسم الغير وأضحى الفنان محرضا على الأمل وطبيب حضارة وكائن الصيرورة ولاعب نرد ومبدع أشكال جديدة من الحياة. لكن بما يتميز الفنان من ملكات عن العامي؟ وماهي التجارب والحركات الفنية المطالب بالانخراط فيها لكي يكون فنانا حقيقيا؟ هل يجب أن يكون مبدعا أم ملتزما؟ وهل يجدر عليه اجادة الحكم أم امتلاك الذوق؟ومتى ظهرت كلمة فنان لأول مرة؟ وماذا كانت تعني؟ وماهي مختلف التحولات التي مرت بها ؟ هل الفنان هو مجرد حرفي أم مؤلف مبتكر؟ هل هو شخص موهوب وبارع أم هو عبقري يمتلك قدرات استثنائية؟ وماهو السر الكامن في تقلص رقعة معنى الجمال واتساع نطاق تسمية الفنان؟

في نهاية القرن 18 ولدت كلمة فنان في نطاق ضيق وللإشارة الى فئة قليلة من الحرفيين واستخدمت العبارة بمعنى النعت المحايد ولكن منذ القرن 19 اتسع نطاق تسمية فنان واستخدمت بمعنى النعت الايجابي وحملت معنى وصفي تقويمي وأشارت الى عازفي الموسيقى وممثلي المسرح والسينما والمؤلفين في الأدب. بعد ذلك حدث انزلاق للحكم الجمالي من العمل الفني الى الفنان وبدء التغير التدريجي في صورة الفنان وتم اعتبار الفنانين نماذج تتمتع بوضع استثنائي في المجتمع وتمتلك الأصالة والتفرد وتعامل بتثمين خاص ولك نتيجة تقدير الموهبة الكامنة والبراعة والكفاءة التي يتميز بها وليس سرعة التعلم والتمثل الذاتي للمواضع الخارجية ومعطيات الواقع والقدرة على فهم العلاقات واستيعابها. لقد بات الفنان ذا شأن رفيع وترتب عن تثمينه توسيعا في رقعة المعنى بحيث تزايدت الحدود في الفن المعاصر لتتعدى التصوير والرسم والنحت والموسيقى ولتشمل الصورة الفتوغرافية والفيديو والاستعراض السينوغرافي والعمران المدني والفلسفة. بل راجت عبارة صالحة للاستخدام في الفن المعاصر أكثر حيادية وتجسد حركة الفنان في جملة الممارسات الجديدة وهي صفة " تشكيلي ".بناء على ذلك يتميز الفنان بالمقارنة مع الإنسان العامي والفيلسوف ورجل الدين ورجل العلم بجملة من الخصال أهمها: -الموهبة والبراعة والأصالة والتفرد/ - الخصوصية في الإحساس

- الوضوح في التعبير/ - الالتزام الصادق والإخلاص في العمل

- اتساع الخيال /- سلامة الذوق / - استثمار اللاّشعور/- الحرية الخلاقة

في الحقيقة يوجد فرق جوهري بين الإنتاج الصناعي والإبداع الجمالي. كيف ذلك؟

المبدع الحقيقي ليس المصور المحاكي ولا المقلد الحرفي الذي يكتفي بالنقل والاستنساخ والتوليد الميكانيكي عن طريق التقنية والصناعة للمنتوجات بل الذي يعيد خلق العالم بالمعنى الحقيقي للكلمة ويحدث اليقظة في الجمهور ويمارس الفعل الثقافي ويتجاوز المعتاد ويهرب إلى عالم فوق الحقيقة ويؤسس وجوده المستقل ويتخذ من ذوقه فكرة حقيقية ويتسامى بموضوعه ويجعل من أشكاله أسلوبا خاصا به. بناء على ذلك يمتلك الفنان شخصية فريدة من نوعها وغريبة الأطوار تتميز بالإبهام والغموض والسرية من جهة ولكنها تلتزم بالأمانة والإخلاص والإتقان والوفاء والحب والصداقة واحترام الجوانب الإنسانية من جهة أخرى. كما تتصف حياة المؤلف بالتمرد على السائد والخروج عن المألوف والثورة على الأوضاع المتردية لحرصه على أن تؤدي الأعمال الفنية رسائل ايجابية وتأثيرات حيوية في شخصية المتلقي أو المتذوق ويؤكد على أنها خمس علاقات هي وظيفة اللهو وتطهير الانفعالات والنشاط التقني والتحسين والتكرار. تبعا لذلك يعبر العمل الفني عن شخصية مؤلفه ويعكس بعدا جماليا لسيرته الذاتية وما تتصف به من أمانة وصدق وإخلاص ودرجة اشتباكه مع الواقع وتغذيه من الخيال وإحساسه الجزئي ودرجة انفعاله من الأحداث. غير أن الفنان الموهوب هو الذي يوقع باسمه شيئا فريدا لا نظير له ولا يماثله أي عمل فني آخر وذلك بأن يجعله لحظة أخرى في تطور الفن ولا يقتصر على الاتباع الحرفي والتقليد والمحاكاة والنقل والاستنساخ. جدير بالملاحظة أن الإعجاب بالفنان ينبع من تحويل الفن في حياته من حرفة إلى مقام ومن مهنة شاقة إلى عادة جميلة ويحوز الفنان على التقدير لأمانته عند التعبير ومطابقته للوجدان وامتلاكه الذوق الرفيع والإحساس المرهف وتأليفه بين الجميل والحقيقي والخيّر. زد على ذلك يقوم الفنان بتعميم تجربته الجمالية ونشرها عند الناس ويقصد من ذلك استبدال الواقع المبتذل والمكرور والمحبط باللاّواقع والوهم والمتخيل ويجعل من تأمل الجميل فرصة للانطلاق والتحفز والتحرر من الأعباء والضغوطات والالتزامات وممارسة الهواية واللعب والتسلية وإضاعة الوقت والتفريج عن النفس والترويح عن الذات.

كما يساعد الفنان الناس على تطهير الانفعالات من الاندفاع وإفراغ النفس من العنف والفزع والحزن وشحنها بالشفقة والمحبة والفرح ويقوم بتحسينات خيالية للحياة الواقعية ويقوى ملكة الحلم بتربية الناس على الوعد والانتظار الجميل.جملة القول أن " المبدع لكي يكون فنانا حقا عليه أن يثبت أصالة وتفردا، وأن يثبت في الوقت نفسه قدرة على التعبير عما في داخليته على نحو يبلغ مستوى العالمية"2[2].

من ناحية عملية فإن الفنان ليس عبدا للواقع ولا يهرب من وطأة الظروف القاسية ولا يقتصر على كتابة وقائع راهنة بل يتحلى بالشجاعة والإقدام ويشارك في التغييرات التاريخية ويتحول الى كائن الحرية والالتزام بل يصبح محرضا على طلب الحرية وتحقيق الانعتاق ولذلك تترك كلماته أصداءها في مجتمعه وتشكل مقدرته الخلاقة قدوة لغيره ويدخل في مواجهة مع عصره ويساهم في حل قضاياه. في ها الاطار " ان الكلمات مسدسات عامرة بقذائفها فيجب أن يحسن الناثر التصويب الى أهدافه"3[3]. في حقيقة الامر الفنان ليس محايدا من الناحية الثقافية ولا نزيها بالمعنى الموضوعي ولكنه مورط في الصراع الاجتماعي ومطالب بأن يشهد على عصره ويصدح بموقفه الثوري ويعلن رأيه السديد ويحيط بماهو عالمي وإنساني. ومن المستحيل ألا يبالي الفنان بما يحدث في واقعه الاجتماعي وأن يدير ظهره للمعاناة والاستغلال ومن المخجل أن يشتغل بأشياء شكلية وجانبية ويهتم بقضايا الامتاع والمنفعة والأسلوب وأن يبحث عن الغائية في الطبيعة بينما الغائية الحقيقية هي التي يوجدها في الأدب والنثر والكتابة وقدرته على منح معنى للعالم. ان مسؤولية الفنان تقتضي عندئذ الالتزام  الذي لا مفر لكل انسان منه وإلا سقط في سوء النية والهروب من الذات ومن مستلزماته نكران الذات وإيثار المصلحة المشتركة والابتعاد عن العزلة واختيار التموقع في المجتمع. كما أن الالتزام الذي يبديه الفنان له مناحي اجتماعية وسياسية ووجودية ويتجسد في الانحياز الى المظلومين والفقراء والمضطهدين ويتمثل في انارة الطريق أمام الناس من أجل كسر قيود العبودية والجهل واختيار طريق الانقاذ والإصلاح والثورة ولكن بالاحتفاظ بالاستقلالية والحرية الشخصية والقدرة على المبادرة. غير أن التزام الفنان لا يقتصر فقط على انخراطه في معارك يومية ومطاحنات فكرية بل يستوجب القاء النور على قيم الخلود والبطولة وإدراك الأبدي وتثمين القيم الانسانية والإيمان بالحرية والإحاطة بالكوني. لكن هل يكتفي الفنان بتلبية انتظارات الجمهور أم يرنو الى المزج بين الواقعي والمتخيل؟

الهوامش

[1]  جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007، ص153.

[2]   نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011. صص153-154

[3]  جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ،.ص24.

 المراجع

جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ.

جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007،

نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011.

[1]  جورج هانز غادامير، الحقيقة والمنهج، ، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح ، دار أويا ،طرابلس ، ليبيا ، 2007، ص153.

[2]   نتالي اينيك، سوسيولوجيا الفن ،، ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة 2011. صص153-154

[3]  جان بول سارتر ، ما الأدب؟، تجمة محمد عنيمي هلال، دار نهضة مصر، القاهرة، دون تاريخ،.ص24.


إن لم نكن قدر المقام/ محمود شباط


سُـبْـحَـانَ مْـنْ أهْـدَاكِ قَـدّاً مَـائِـسَـاً
وَمِـنَ الْـمَـلاحَـةِ عَـسْـجَداً مِـنْ بَـدْرِهِ
ونَـاهِـدَيْـنِ كَـمَـا الـرُمَّـانِ فِـي يَـنَـعٍ
ظَـبْـيَـانِ كُـلٌّ يَـستَـرِيْـحُ بِـخِـدْرِهِ
مَا إِنْ دَنَـوْنَـا بِـدَافِـعٍ مِـنْ جَـذْبِـكِ 
حَـتَّـى نَـفَـرْتِ بِـدَافِـعٍ لَـمْ نَـدْرِهِ
إنْ لَـمْ نَـكُـنْ قَـدْرَ الْـمَـقَـامِ فَـعُـذْرَنَـا
أَنَّـا اجْـتَـهَـدْنَـا كَـيْ نَـكُـونَ بِـقَـدْرِهِ

في ذكرى النكبة السابعة والستين الى متى المسير؟ والى أين المصير؟/ مارسيل منصور

اليوم في 15 مايو أيار 2015، يذكرنا بمرور العام السابع والستين ليوم «النكبة» الفلسطينية، وهي «الكارثة» التي حلّت بالفلسطينيين عند طرد وتهجير الشعب الفلسطيني من أجل إنشاء وإقامة دولة إسرائيل عام 1948. أتوقف هنا برهة لأفكر وأقول : ماذا صنعت لنا سبعة وستون عاما مضت في حياتنا السياسية والوطنية والفكرية، من أجل التغييرالحقيقي في جوهرالقضية الفلسطينية؟  ماذا بعد «نكبة »1948؟ ثم «نكسة» 1967؟ ثم الحروب المتتالية التي ما زالت تنهك في الشعب الفلسطيني؟ وماذا بعد المظاهرات السنوية في أنحاء العالم عامة وفي شوارع سيدني خاصة ، والرأي العام ما زال شبه متجمداً تجاه مفهوم «النكبة» والقضية؟ أسئلة وأجوبة متلاحقة تدورفي خلدي لا يمكن شرحها هنا ، ولذا رأيت أن أعيد نشر مقالتي بتاريخ 15 مايو2013 ، أي منذ سنتين مضت كما هي :
اليوم في 15 أيار مايو 2013، يذكرنا بمرور العام الخامس والستين ليوم «النكبة» الفلسطينية، وهي «الكارثة» التي حلّت بالفلسطينيين عند طرد وتهجير الشعب الفلسطيني من أجل إنشاء وإقامة دولة إسرائيل عام 1948.  
ست حقبات ونصف مضت، والحقيقة ما زالت غامضة وشبه مجهولة عالمياً لدى الكثير من الشعوب. هناك تاريخ طويل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي كان وما زال يتعرض للتشويه من قبل وسائل الإعلام وغيرها، ونتيجة لذلك تظل القضية غير محدّدة المعالم ... حتى أصبحت على مرّ السنين ... وكأنها لغز مبهم يصعب حله ... أوكأنها مرض مزمن قد أصاب الفلسطينيين وأصبح يلازمهم ولا بدّ لهم من أن يعايشوه !

فأنا ما زلت أذكر في أغسطس 2010 عندما قدّمت كلمة موجزة عن النكبة والهجرة، استقيتها من التجربة الشخصية لعائلتي المهاجرة من يافا، وكان هذا في قاعة النادي الفلسطيني بمناسبة تدشين كتاب «الفلسطينيون في استراليا» للمؤلف الصحافي الشقيق هاني الترك. ولدهشة الحضور قالت السيدة باربرا بيري عضو البرلمان : «انها لأول مرة تتعرف على المعنى الصحيح لمفهوم كلمة «النكبة» هذه اللفظة العربية التي يصعب فهمها واستيعابها.» وهذا ما يدل على أن كلمة «النكبة» قد يسمعها البعض أحياناً وكأنها واحدة من مرادفات اللغة العربية فقط. وقد يسأل سائل لماذا التعقيد؟ وهل أن الرأي العام غافلٌ وغشيم عن حقائق التاريخ؟ وهل أن القضية الفلسطينية هي لغز معقّد التكوين ولا يمكن إيجاد حل له كما يدعي البعض؟ وإذا كان الأمر كذلك، وعلى فرض أن هذا اللغز بمثابة صورة تتكوّن من قطع مبعثرة، فكيف يمكن أن نجد الحل من غير الحصول على القطع الضائعة؟ ويمكن تعليل ذلك لو تعمقنا في فلسفة «الجشطالت» أو «علم النفس الإدراكي» والذي عن طريقه نستطيع أن نعرف أن حل المشكلة قد يكمن في الأجزاء المكونة لها... وأنه لا يمكن أن تحل لغزاً محيّراً إذا كان هناك عدد من القطع مفقودة ... فمذهب «الجشطالت» بالألمانية هو «جوهر كيان الشكل الكامل» القائم على نظرية العقل ومبدأ أن العين البشرية ترى الأشياء في مجملها قبل إدراك أجزائها. إذن الحل للمشكلة يكمن في إيجاد الأجزاء المكونة لها من أجل أن تصبح الصورة كاملة وواضحة المعالم.

ولهذا السبب نرى أن القضية الفلسطينية مبهمة حتى باتت وكأنها لغز في عين الآخرين. وإذا كانت بعض القطع ضائعة في أي لغز بسيط ولذا يتعذّر حلّه ، فما بالنا لو كانت القطعة الجوهرية المركزية هي الضائعة؟ ألا وهي مفهوم «النكبة»؟ التي ينكرها «العالم» والقانون الدولي؟.. وإذا كانت المفاهيم مقلوبة في جوهرها ... فكيف يمكن إيجاد حلّ لها؟

فمنذ إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين وحدوث «النكبة» في 1948... شهد التاريخ ما بين نوفمبر 1947 ويناير 1949 انه قد تمّ تدمير 530 قرية ومدينة فلسطينية وقتل 13000 فلسطيني، وتهجير 700 و750 لاجئاً ... وأنه في العصر الحاضرهناك حوالي سبعة ملايين لاجئ فلسطيني يكوّنون أكبر جالية من المهجرين اللاجئين في العالم وما زالوا يعيشون في المنفى بينما هناك آلاف يعيشون في سجون غزه ... وأن حوال ثلثي تعداد السكان الفلسطيني هم لاجئون في المنفى حيث يشكل الفلسطينيون اليوم أكبر جالية وأقدم مجموعة لاجئين في العالم، وأن 40٪ في المائة من اللاجئين هم فلسطينيون، وأن 74٪ في المائة من مجموع السكان الفلسطينيين هم لاجئون. كل هذا نتيجة النكبة والتهجير.

وعلى مدى التاريخ الدموي المديد، ومقاومة الاحتلال ، وكما نعرف ... نرى أن هناك بعض الحلول السلمية التي طرحت على مرّ السنين الأخيرة، مع مراعاة مدينة القدس بأنها مهد الديانات السماوية الثلاث الكبرى، كما وأنه ما زال مطروحاً في مفاوضات السلام إيجاد الحلول المناسبة ... كدولة أو دولتين..! علمانية أو دينية !!
وفي خضمّ كل هذا وذاك ... ما زال الفلسطينيون يقومون بإحياء ذكرى النكبة في كل أنحاء العالم على أمل أن «العالم» لم يعد يُخدع ... وأن يكون الرأي العام في «العالم الغربي» مستعداً اليوم لاستقبال الحقائق الصادقة.. لأن التساهل حيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يعتبر مشبوهاً وهو خرق للقانون الدولي وحقوق الانسان.
ومما لا ريب فيه أنه قد آن الأوان للكشف عن الوجه الحقيقي للقضية الفلسطينية ومفهوم «النكبة» وربما هذا يعطى الأمل في الحرية وإنهاء الاحتلال والرجوع الى الوطن وتحقيق السلام العادل في ظل الإنسانية والحقوق المشروعة.

وكم يشتاق الفلسطينيون الى الاحتفال في يوم «الاستقلال» بدلاً من إحياء ذكرى «النكبة» فإلى متى المسير؟ والى اين المصير؟

إستعراض وتحليل لكتاب "بين مدينتين" (سيرة ذاتيَّة) للكاتبِ والاديب والاستاذ فتحي فوراني/ حاتم جوعيه

مقدِّمة
وُلِدَ  الكاتبُ  والأديبُ  المبدع  الأستاذ   فتحي  فوراني   في   مدينةِ حيفا.أصلُ عائلتهِ من مدينةِ "صفد" الجليليَّة.  سكنت  العائلة  في حيفا  فترة  قصيرة  ورجعت  بعد  ذلك  إلى مسقطِ  رأسِها صفد  حتى عام  1948  عام النكبة،  ثم َهُجِّرِت مع من هُجِّرُوا..لقد هُجرت العائلة من صفد  وانتقلت  بعد  ذلك  إلى مدينةِ  الناصرة   وبقيت  فيها  سنوات طويلة.
نشأ   فتحي  وترعرعَ   وأكملَ  دراستهُ  الابتدائيَّة  والثانويَّة  في  الناصرة،   وبعد   ذلك   قرَّرت  عائلتهُا  الانتقالَ  إلى  حيفا   لوجود  عائلاتٍ   صفديَّة  تربطها علاقاتُ  صداقةٍ  مع  والدِهِ.
في حيفا عمل  فتحي في أكثر من  مجال: في البداية عمل في بنك  باركليز، وفي فترة عمله  في البنك  أنهى دراسته  الجامعية  في جامعة  حيفا   وأنهى   اللقب الأول   B.aفي موضوعي اللغة العربية وتاريخ  الشرق الأوسط . ثم انتقل إلى القدس وأكملَ دراستهُ  الجامعيَّة  وحصلَ  على اللقبِ  الثانيm.a  في  اللغة  العربيَّة من الجامعة العبرية، ثم التحق بسلك التعليم حيث  درَّسَ اللغة  العربية  في  الكليَّة  الأرثوذكسيَّة  العربية  في  حيفا   مدة   تزيد على  ثلاثين عامًا.
لقد  تتلمذت  وتخَرَّجَت على  يديهِ  أعدادٌ  كبيرة ٌ من  الطلاب، ومنهم  اليوم :المحامون  والقضاة  والشعراء   والأطباء  والمهندسون  وأعضاء  برلمان ورجال الأعمال والمعلمون  وفي شتى المجالات . كما  عمل محاضرًا للغة العربية  في الكليَّة  الأكاديمية  للتربية "أورانيم".  إضافة إلى ذلك  فقد عملَ محررا أدبيًا في صحيفةِ "الاتحاد". شغل منصب نائب  لرئيس  بلديَّةِ  حيفا وعضوَ  بلديَّةٍ من  قبل الجبهة.. وأصدرَ العديدَ  من الكتبِ  الأدبيَّةِ  واللغويَّة وقواعد  اللغة   العربية.  وأمَّا  كتابُهُ  الذي  بين   يدينا  الآن  (بين مدينتين)    فتروي  فصولهُ  وصفحاتهُ  الكثيرَ من حياتِهِ  وذكرياتِهِ  منذ  الطفولة وحتى الآن.
لأسباب صحية اضطر للخروج إلى التقاعد المبكر،فتفرَّغ  كليًّا وأصبحَ لديهِ  متّسع من الوقت  للكتابةِ والإبداع . وفي هذه الفترةِ  كتبَ هذه  السيرة  "بين مدينتين"، وأصدر منها الجزء الأول الذي سيتبعه الجزء الثاني تحت عنوان "حكاية عشق"، ولهُ  غير هذه  السيرة  12  كتابًا . 
**
مدخل إلى السيرة
"بين مدينتين (سيرة  ذاتيَّة) يقعُ  في 290  صفحة  من الحجم الوسط . على وجهِ  الغلاف الأول  صورة  حالية  للكاتب  وعلى الوجهِ  الثاني من الخلف  صورة   للكاتب  في  مرحلة  الصبا .  صدرَ هذا  الكتاب  عن  دار  "راية"  للنشر- حيفا. 
سأتناولُ هذا الكتاب من خلال الاستعراض أوَّلا وبعدها  أنتقل إلى التحليل . 
  يستهلُّ  الكاتب   سيرته    بمقدِّمةٍ   قصيرة   وجميلةٍ   يتحدَّثُ   فيها   عن  الظروف التي ولدت فيها  هذه السيرةِ  والدافع للبدء  بها. فقد  أصيب الكاتب بالسكتة الدماغيةالتي أسماها (بنت الكلب) حيث توقفَ إثرها عن العمل  في سلك  التدريس وأصبحَ  لديهِ  الوقتُ  الكافي لكتابةِ  هذه السيرة  التي  تحتاج إلى  تفرُّغ .. ويذكِّرنا  بالشَّاعر أبي الطيِّب  المتنبيِّ  عندما  أصيبَ  بالحُمَّى  فمكثَ أسابيع  في منزلهِ  وقد  سمَّاها  "بنت الدَّهر".. فالسكتة  الدماغية هي المسؤولة  والمحفز لكتابةِ  هذه  السيرة وللتفرُّغ  للمطالعةِ   وللكتابةِ   بشكل مكثفٍ ،  وخصوصًا   عندما   بدأ   أصدقاؤُهُ   ومعارفهُ   وأترابهُ   وطلابه والأقارب  يزورونهُ   بشكل  مكثفٍ،  فيستعرض أشرطة َ الذكريات   وأيامَ  الطفولةِ والصبا والشباب. يكون الحديث ذا شجون،  ويقترح عليهِ الأصدقاء تدوينَ هذه الذكريات  لأنها  هامَّة ٌ وممتعة وشائقة. وهذا ما حصل (المقدمة -  حكاية  السيرة  من  صفحة  8 - 17) ولولا  "بنت الكلب" لما  كتب  هذه السيرة. 
يهدي  المؤلفُ هذا الكتاب (السيرة)  لزوجتهِ   وأولادهِ  وأحفادِهِ.
**
تقسم السيرة ُ إلى ثلاثةِ  فصول: 
ألفصل  الأول  بعنوان:  من  اليرموك  إلى "حارة  الصواوين"  ( ص 17-  37) .
ألفصل الثاني بعنوان: من صفد إلى الناصرة (ص 37 - 134)  .
الفصل  الثالث والأخير، الاتقال من الناصرة إلى حيفا(ص135– 292). 
**
  وفي كل  فصل وجزءٍ العديدُ من  اللوحاتِ والمشاهد عن  حياتهِ  وذكرياتهِ  منذ  نشأتِهِ  وطفولتهِ  في  صفد  ثم  الناصرة  وحتى انتقالهِ  مع  العائلةِ  إلى حيفا ودراسته الجامعيَّة وعمله في البنك  ثم  في التعليم..
وفي  هذه  الصفحات  يستعرضُ  الكثيرَ  من   الذكرياتِ   والحكاياتِ   التي أصبحت  الآن  تاريخًا، وخاصَّة  مع  رفاق  وأترابٍ عاشرَهُم  ولهم  الدورُ   الكبيرُ على  الصعيد ِ الوطني  والأدبي  والثقافي  والإنساني،  مثل : محمود  درويش  وراشد  حسين  وسميح القاسم  وإميل حبيبي وغيرهم ..وَيُحلَّي هذا  الكتابَ  العديدُ   من  الصور  للكاتب  مع  عائلتهِ  وأصدقائهِ   وغيرها   من الصورللكتاب والشعراء . ومنها صورٌ لمعالم وحاراتٍ  في مدينةِ صفد  قبل النكبة  ولحيفا والناصرةِ  في  سنواتِ الخمسينات والستينات.
**

الطريق إلى صفد ..إلى  حلم المشتهى
يبتدِىءُ الكاتبُ هذه السيرة  بالجزءِ  الأول  وهو بعنوان: (الطريق إلى صفد ..إلى  حلم المشتهى)..ويتحدَّثُ  فيهِ  عن  ترحيل  العائلة  عن  مدينةِ  صفد، وبعد خمسة وأربعين عامًا  يصف الكاتب  زيارة  أقربائه الذين  شردوا عام 1948 وجاؤوا من  اليرموك في  دمشق . ويروح والدُهُ  يستعرض  لهم أهمَّ المعالم  والأماكن والذكريات  في صفد، مثل: نبع الصفا  الذي  كان  صافيًا    ومكان  بيتهم   وملاعب  الطفولة  والبئر  والسهول الخضراء.. والكثير من المعالم  والمواقع  التيدرست أو أصبحت  أطلالا. 
   ويذكرُ الكاتبُ (من أرشيف ذاكرتِهِ)  كيف  كانت الحياة ُ في صفد عندما كان  طفلا   صغيرًا ،  فيستعيدُ   ذكرياته  حيث  النساء   والصبايا   يرتدين "الملايات   الصفديَّة "  ذات   اللون  الذهبي  المخطط  والشبيهة  بالملاياتِ  التي  ترتديها  النساء  الشركسيات، والأولاد  والبنات  الذين  يرتدون   ثيابًا  جديدة ..والعصافير التي تتقافزُ وتسقسق مرحة.. يتذكر الألعاب والمراجيح، وكيف   كانت   الدكاكينُ   والأسواقُ   حيث    الحلويات    وغزلُ   البنات والبصطرمة، والعرقسوس  والأسكيمو  والشوكولاته..ويتحدَّثُ  عن  زيارةِ  القبور  وكيفَ  كانت  توزَّعُ  الحلوى على  الأطفال، وخاصَّة   كعك  العيد، وتزين باقات  الورد  الملوَّنة  القبور البيضاء.  يرمزُ الكاتبُ إلى شخصيَّتِهِ  باسم (عبد الله) وهو الشخصيَّة المركزيَّة والرئيسيَّة والبطل في هذه السيرة الذاتيَّة .  ويقولُ " ضباب  الطفولة  يُخيِّمُ  على  ذاكرةِ  الصبيّ، ولكن  تظلُّ  "صفدُ" الحلمَ  وذكريات  الطفولة الضبابيَّة  عميقة  في  الوجدان  والذاكرة. ويتذكرُ  وهو  صغير  كيف   أنَّ  صفدَ  هي  مدينة  جميلة    بحكم   موقعها الجغرافي في الرَّبيع  والصَّيف فيقول : "وكان  يزورُها العربانُ  من  جميع أنحاءِ  الوطن  العربي  ومن  بلاد  اللهِ  الواسعة، فقد  جاؤُوا  ليصطافوا  في  صفد - عروس الجبل - وأجمل  مصايف  فلسطين".
ألجدّوالجدّة
  ويتحدَّثُ الكاتبُ عن جدِّهِ الذي كانَ تاجرًا وكان  يتكلَّمُ لغة َ الإيدش وكانت  تربطهُ علاقاتٌ  تجاريَّة مع التجَّارالحيفاويِّين الذين تكلّمُوا الإيدشَ، فتعلَّمَ لغة َ القوم  لكي  يأمنَ  مكرَ الليالي وَمكرَهم! ويصفُ  جدَّهُ  وصفًا  دقيقًا  بقامَتِهِ  ولباسِهِ العربي الذي يرمزُ إلى الأصالةِ والجذور..لقد اقتُلِعَ  جدُّهُ  من أرض ِ آبائِهِ وأجدادِهِ  فوجدَ نفسَهُ لاجئًا في بلادِ الغربةِ  ووريَ  التراب  ودفنَ  فيما  بعد  بعيدًا  عن وطنِهِ . إنها   مأساة ُ  الكثير من  اللاجئين   المشردين  الذين  رحلوا عن العالم ودُفنوا خارج الوطن.    
وبعدَ  أن  يعرضَ  صورة ً موسَّعة ً  لجدِّهِ  وصفاتهِ  الرجوليَّةِ  يتطرَّقُ  إلى  جدِّتِهِ وعلاقته  الحميمة  معها. ثم يصف الكاتب عملية  التشريد عام  النكبةِ،  فتحتَ  زخِّ  الرَّصاص  حملَ  الرجالُ  والنساءُ   ما  خفَّ  حملهُ   والأطفالَ الرُّضَّع على الصَّدر وآخرون  يتشبثون بأيدي  الكبار وعلى رؤوس النساء وعلى أكتاف  الرجال  أحمال  (ص 39) ..وأمَّا  جدَّتهُ  فقد  وجدَت  طريقهَا  إلى الناصرةِ  قبل رحيل  الأهل إلى الشَّمال- لسوريا - وكانت الجدَّة  ُخبيرة ً في  صُنع  القطرة  للعيون  ومداواتِها، وكانت  طيَّبة َ القلبِ  وتحبُّ  العطاءَ والمساعدة، وكان الطفلُ  عبد  الله ( أي:  فتحي كاتب  ومؤلف هذه السيرة ) يمسكُ   أحيانًا   بثوبها  وأحيانًا   بيدِها   ويجدُ   المتعة َ في   مرافقتِها  أينما   ذهبت،  فمعها  يشعرُ بالأمان  والاطمئنان، وكانت  تغمرُهُ بحنانِها وعطفها، فيرتاحُ لها  أكثر ممَّا  كان  يرتاحُ إلى أمِّهِ  وهو  صغير.  
**
قرية داخل المدينة
  ثمَّ  ينتقلُ الكاتبُ  إلى لوحةٍ أخرى في نفس الفصل بعنوان :(الحيّ الشرقي  في مدينةِ الناصرة  ومسرح الفولكلور الشَّعبي ) فيتحدَّثُ  بشكل موسَّع  عن مدينةِ  الناصرةِ  بعد عام  1948 وحتى سنوات الستينَات من القرن الماضي  وكيف كان نهجُ ونمطُ  وطابعُ الحياةِ  والحاراتِ والأحياءِ الشعبيَّة ..ويصفُ الطابونَ  والكانونَ والتبنَ والأتون  والبيدرَ  والشاعوبَ في الحي الشرقي. أي  أن هذا الحيّ َ عبارة عن قريةٍ  كبيرةٍ  في مدينة  البشارة.. ونمط  الحياة  فيها  مشابهٌ  جدًّا  لحياةِ  القرى العربيَّة  الأخرى، فالناسُ  نفسُ الناس  وفيها  الطوريَّة   والجمال   والحرَّاثون   والبقر   والعجَّال  والصراعاتُ  الجاهليَّة (الخلافات  بشكلها   وطبيعتها  العصريَّة  والصراع  العائلي)...وكان الناسُ  يستعملون كثيرًا  الدوابَّ (الحمير والجمال  والبغال  والخيل)  لنقل  الأمتعة  وغيرها. وكانت  سيَّاراتُ النقل  والشحن  نادرة.  
نهر اللاجئين يصب في الناصرة
   ويذكرُ الكاتبُ العديدَ من الأصدقاء الذين جاؤوا من القرى المجاورة  التي  تشرَّدَ  سكانها  وسكنوا   في  الناصرة ، مثل: معلول ،  المجيدل،  صفورية وحطين  ولوبية  والشجرة.. وغيرها،. يصف  الكاتبُ هؤلاء  النزلاء  الجدد  وصعوبات  العيش  التي   واجهتهم   في  بداية   نزوحِهم   وكيف   تجمَّعت   العائلات  المشرَّدة   في  الكازانوفا  واصطفت  الفراشَ  والسجاجيدَ  القديمة  (ص 44 )..  ونصبت  الستائر  والبطانيَّاتُ  على  الحبال   لتشكل   حيطانًا وحواجزَ  متحرِّكة  تفصل  بين عائلة  وأخرى، وتحافظ  على "خصوصيَّة"  العائلات  المشرَّدة   وتشكل   حدودًا   بين  " الشقق   العصرية  " الجديدة!
إنَّهُ لأسلوب تهكُّميٌّ وجميل يعكسُ هولَ وعمقَ المصيبةِ  والمأساة .     
   ويذكرُ الكاتبُ  لقاءَهُ  الأول  بالصديق عفيف خليل سالم الشريد القادم  من معلول والذي ما  زال يلتقيهِ  يوميًّا  ولا سيِّما على  شاطىءِ البحر(بعد ستين عاما ؟ لا أصدِّق !  كأنها  أمس ) حسب  تعبير الكاتب.. ويتحدَّث عن  البرد القارس  في   مدينةِ   الناصرةِ   في   فصل  الشتاء   الذي  كان   لا   يُطاق آنذاك...وكيف كان يذهبُ  إلى المدرسةِ  في  ساعاتِ الصباح  في جوٍّ ماطر  وقارس  جدًّا  مثله   مثل   باقي  الطلاب..  وكيف  كان  السكانُ   اللاجئون يُضطرُّون  إلى  احتطاب  الأشجار  ليستعملوها  وقودًاِ  ويقيمون  برَّاكيات الصفيح  لتكون الوطنَ الجديدَ  بعدَ أن اقتلِعُوا من  بيوتِهم  ومنازلهم  وفتكت بهم معاول  الغدر والتشريد. 
مدرسة فتحي ..والفلقة!
هذا  ويستعرضُ  الكاتب  فترة َ  دراسته   للمرحلةِ  الإبتدائيَّة  في  "مدرسةِ  فتحي" واسمها "مدرسة الجامع"  المجاورة  للجامع  الأبيض والتي  أسَّسهَا الشيخ   " فتحي  الدريني"  الذي  درس  في  الأزهر  فسميت باسمِهِ ، وتقعُ  بجانب مدرسة  تيراسنطة (مدرسة  الدير) ..ويتحدَّثُ بالتفصيل عن  أساليبِ التعليم   في   المدرسةِ   والمواضيع   التي   يتعلمونها   وأوضاع   الطلاب  الاقتصاديَّة  الصَّعبة، وخاصَّة  الطلاب  الذين  كانوا  لاجئين ،  وكيف  كان المعلمون  آنذاك   يُعاملون  الطلاب   بمنتهى   القسوةِ   وبالضَّرب  المبرح  لأتفهِ  الأسباب  ولأبسط  ذنب  يرتكبهُ الطالب. ويذكر تعرُّفه على زميله في اليوم  الأول  في  مدرسة   فتحي،  وتنشأ   بينهما  صداقة  حميمة   ويصبحَ الصديق  في  ما بعد  شخصيَّة ً لامعة  قانونيًّا  ووطنيًّا  وهو  المحامي  وليد  الفاهوم . ويصف الكاتب  كيف  كانا  يتقاسمان  قطعة  الحلوى  مناصفة ً أو  أيَّ   شيىءٍ   للأكل .     ويقولُ  الكاتب  " إنهُ  العيش   والملح   في   أجمل تجلياتِهِ.. وأكثرها  عفويَّة  وبراءة .  أهي  الدروس  الأولى  في  الاشتراكيَّة  الحقيقيَّة! ربَّما.. وتستمرُّ هذه  الصَّداقة  منذ  ستة عقود  و حتى الآن.
وأما  الكاتبُ  فقد  اختارَ رسالة  التعليمَ (الجهاد  في  ورشةٍ حضاريَّةٍ لصنع رجال المستقبل..وتعليمهم  من  أينَ  تؤكلُ الكتف، فقد حملَ  صليبَهُ  واختارَ  مهنة َ تربيةِ  الأجيال الصَّاعدة  نحوَ شاطىء الحلم وفتح  شهيَّتها على عشق اللغةِالقوميَّة..اللغة العربيَّة).  
وأمَّا الصَّبي الآخر الذي هو المحامي  وليد الفاهوم  فقد  اختارَ طريقَ الدفاع  عن الغلابى من أبناءِ شعبنا الرازحين تحت  نير الاحتلال ثمَّ  طريق الإبداع الأدبي. هذان الصبيَّان  بدَآ الطريق معًا..وظلا وما  زالا  على  هذا الطريق (ص51 – 52 ) .
**
كنيسة الأقباط..وكنيسة الأحد
      وينتقلُ  الكاتبُ  إلى لوحةٍ أخرى فيتحدَّثُ عن  كنيسةِ الأقباط ، وأكياس الورق ..
 "يذهبُ  الصَّبيُّ إلى الكنيسةِ  ويصادقُ  الأبَ  واكيم - الكاهن المسؤول عن  بناء  الكنيسة -   فيسمحُ  لهُ   بأن   يلمَّ   ويجمعَ   أكياسَ  الإسمنت  الفارغة  ويأخذها   إلى   البيت   فيفكّها    ورقة   ورقة   ويفصلها    ويعيدُ   تشكيلها  وهندستها  وترتيبها  من   جديد،  فتتشكلُ   أكياسَ   ورق  صغيرة .. يبيعها لدكاكين البقالة  وغيرها  من  الحوانيتِ  في  سوق المدينة . 
وكان  يذهبُ أيضًا إلى  كنيسة ِ " الأحد "مع  مجموعةٍ من  أترابهمن  جميع الطوائف ، وكان  الكاهنُ  إسطفان  عتيق  يعطي  دروسًا  في الدين .
درس الدين..درس الرعب!
ثمَّ   ينتقلُ  الكاتبُ  إلى  ذكرياتِهِ  في  المدرسةِ  وكيف  كانت  الغرفُ مكتظة ً بالطلابِ مثل علب السردين! ويصفُ  جوَّ  السوق وأصواتَ  الباعة  خارج  المدرسةِ ( فول مملح فلافل سخن كعك  بسمسم ..إلخ) وكان صوت نداء الباعة يمتزجُ  مع  أصواتِ  المعلمين  داخل غرف الدراسةِ .هكذا  كانت الأجواءُ  في الناصرةِ  آنذاك عندما  كان  فتحي طالبًا  في الابتدائيَّة...
ويستعرضُ الكاتب بالتفصيل أساليبَ  التعليم  والفلقات التي كان  "يطعمها" المعلمون  للطلاب  المشاغبين ، وخاصَّة  للذي   يأتي  متأخِّرًا  إلى  الصَّف  في   أيام   الشتاء  الماطر،  فالمعلمون  لا  يرحمون . ويتحدَّثُ عن  دروس الدين  كيف   كانت   ترهيبًا   وتخويفًا   وليست  ترغيبًا  وتعليمًا  عن  القيم والمعاملاتِ الحسنةِ  والمبادىء الأخلاقيَّةِ  والإنسانيَّة   في الدين الإسلامي. ولم  يُعَلِّمُوا  أنَّ الدينَ  يدعو إلى المحبَّةِ  وأنَّ  اللهَ  محبَّة  إلخ .. فكان  درسُ الدين مصدرَ  رعبٍ للطلابِ.
وكان الطالبُ عبد الله (فتحي) يحلمُ  في الليل بكوابيس مرعبة  بسبب  درس الدين..وخاصَّة (كما علَّمُوهُ) عذاب القبر وكيف  سيكونُ العقابُ  يوم القيامة  بعد أن  يقوم الموتى ويبعثوا من  قبورهم ..إلخ.
  ويتحدَّثُ الكاتبُ عن الجامع الأبيض وهو المسجد الوحيد في المدينة آنذاك  ويأتي إليه للصلاةِ  كبارُ السنِّ ولم  يعرفوا آنذاك شيئا اسمهُ حركات إسلاميَّة  ولم   يدّعوا  إسلامًا  ولم  يكفّروا أحدًا  ولم   يعرفوا  تعصُّبًا  ولا  تزمُّتا  أو كلمة  أصوليَّة  أو سلفيَّة وهابية.. إنهم  رجالٌ أتقياءٌ  أنقياءٌ  بسطاء  مؤمنون  طيبون (صفحة 69).
**
فؤاد خوري ومدرسة "أبو جميل"
 وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهدٍ آخر يتحدَّثُ  فيه عن  مدرسةِ  أبي  جميل  يوسف خليل جدعون مدير المدرسة الإبتدائية . وفي هذه المدرسةِ  يتعرَّفُ  الصبيُّ  إلى العديدِ  من  الأصدقاءِ  اللاجئين   من  قرى  عديدةٍ  .  وبعد  ذلك  ينتقلُ  للحديث عن ( فؤاد  خوري) المدرس المثالي الذي  كان  يعلمُ  بصدق وتفان  وإخلاص ،  وكيف  فصِلَ   من  وظيفتِهِ   لأجل   مواقفهِ   وآرائهِ   الوطنيَّة  والتقدميَّة، وقد أحبَّهُ جميعُ  الطلاب لشخصيَّتهِ. ويقول الكاتبُ (صفحة 76):  ويفصلُ المعلمُ القائد من وظيفتهِ (لأنهُ أحبَّ شعبَهُ  وأخلصَ  لهُ. ولأنهُ  أحبَّ وطنهُ   وعشقَ   ترابَهُ   ولأنَّ  آراءَهُ   السياسيَّة   تشكلُ   خطرًا  على  أمن  الجنرال! ولأنهُ منارة ٌعملاقة تهتدي بها الأجيالُ الصَّاعدة  في  طريقِها  إلى شواطىء الحلم ..إلخ)
 وهكذا كان الوضعُ  في فترة َ الحكم  العسكري  في الخمسينَات  والستينيات من  القرن  الماضي .  فكلُّ  معلم  صادق  ونظيف  ويجاهر  برأيهِ  وموقفهِ السياسي الشريف  والوطني  يُفصَلُ  من وظيفتهِ . 
**
ويستعرضُ  الكاتبُ  بعد  ذلك  لوحات عديدة  منها: هطول الأمطار  وكيف كان الطلابُ  يلبسون ملابس الكاكي ثم  يتحدث عن الفلقات التي  كانت  من "نصيب" الطلاب "يذوقونها" لأبسط  ذنب  وفي طقس الشتاء  البارد  وثلج  الناصرة (السادية  من  قبل  المعلمين)..وكيف "ذاق" الصبي فلقة ً "جامدة"  لأنهُ  تأخرَ  قليلا عن  الدرس  بسبب الأمطار.. 
جنينة أبوماهر..ملتقى الأدباءوالشعراء..
       وينتقلُ  الكاتبُ  بعد  ذلك  للحديث عن  والدِهِ  الذي عملَ  حلاقًا ،  في معسكرالجلمة قرب حيفا وكيف كان  يرتدي الملابسَ الأنيقة َ ويقرأ  الجرائد العربية  والإنجليزية  ويدخن  الغليون َ..إلخ  .   وينتقل  الكاتبُ   بعدها  إلى  مواضيع  عديدة   ويستعرضُ   الكثيرَ  من  الذكرياتِ  وهو  في  الناصرة ، وخاصَّة  أثناءَ  دراسته  الثانويَّة  وما   بعدها  وكيف  كانت   تقامُ   الندواتُ  واللقاءاتُ الأدبيَّة  والثقافيَّة  في عدَّةِ  أماكن من  مؤسسات ونواد  وجمعيات ثقافية  وحوانيت حيث  يجتمعُ  ويلتقي  فيها  الكتابُ  والأدباءُ  والشَّخصيَّاتُ المعروفة  وعددٌ   من  طلابِ  المدارس  .   ويكون  الحديثُ   والحوارُ  في مواضيع   مختلفة: أدبيَّة  سياسيَّة  وعلميَّة..إلخ.  يذكرُ  الكاتبُ  عدَّة َ  أماكن  كانت ملتقى  للأدباءِ  والكتابِ والمثقفين  في الناصرة ( فترة الخمسينات إلى السبعينات  من القرن الماضي) ، مثل :  جنينة  أبي  ماهر  التي  كانت  وما زالت مجمعًا  للخلان (حسب تعبير الكاتب) وكانت معلمًا  بارزًا  من  معالم  المدينةِ  كعين  العذراء .  كان يؤم  هذه الجنينة  شخصيات من  جميع  ألوان  الطيف  الاجتماعي  والثقافي  والسياسي  والتعليمي  .  وكانت   تنصبُفيها " الموائد "  الثقافيَّة   التي   تزيِّنُ   المدينة   ويشاركُ    في   تشكيل   المشهد  معلمون   كبار  كانوا  جزءًا  من  المشهد  التربوي   والتعليمي   في  مدينة  الناصرةِ، ومعظمهم   أنهوا  الصفَّ  الثامن  الابتدائي   قبل  عام  النكبة، ثمَّ  تابعوا المسيرة َ بعد النكبةِ، في بناء  الأجيال الصاعدة ( ص121).  ويصفُ الكاتبُ  بالتفصيل  وبإسهابٍ كيف كانت  تقامُ  الحلقات الأدبيَّة وتطرح فيها الأفكار  والآراء، وكانت  اللقاءاتُ  يوميَّة ً تقريبًا.. وكان  القاسم  المشترك  للجميع  هو  عشق  اللغةِ  العربيَّة  وآدابها   تحت  ظلِّ   المدِّ  القومي  الذي رفرفت في سمائهِ  الناصريَّة. 
جامعة الصفوري..طه محمد علي
 وهنالك مكانٌ  وموقعٌ  آخرٌ للقاءات الأدبيَّةِ  وهو حانوت الشاعر طه محمد علي قرب الكازانوفا حيث  تباعُ  فيه التحف السياحيَّة والتذكاريات  وتماثيل  الرموز  الدينيَّة  ومعالم  الأماكن  المقدسة .  كان  يأتيه  الكثيرُ  من  السواح  والأجانب  لاقتناء   هذه   التحف ،  ويذكرُ  الكاتبُ   بعضَ   الأسماء   التي   كانت   تملأ   المشهدَ   الثقافي  آنذاك  ( فترة  الخمسينات   والستينيات  من  القرن  الماضي)، مثل : إميل حبيبي ،  توفيق  زياد ،  راشد  حسين  وأحمد حسين   ومحمود  درويش   وسميح  القاسم    ومصطفى مرار    ومنصور  كردوش  ومحمود  الدسوقي   وشكيب  جهشان   وميشيل حداد    وفهد  أبو  خضرة   وحبيب بولس    ونبيه القاسم      وأحمد  درويش    وعمر حموده الزعبي   وسعود  الأسدي   وبطرس  دله   ومحمد  علي طه   وعلي  رافع   ومحمد  ميعاري       وحسين  مهنا      ويوسف  ناصر       ونعيم   مخول    وفوزي  الأسمر    ونجلاء  الأسمر    ونجوى  قعوار فرح     ونبيل  عوده  وتوفيق  معمر   وسعاد  قرمان    وحنا  أبو حنا    وجمال  قعوار   وعصام  العباسي   وعبد الحفيظ  دراوشه   وجورج  نجيب  خليل   ومحمود  كناعنه  ومحمد  نفاع   ومفيد صيداوي    ونمر مرقص ..إلخ
وفي  هذه الجامعةِ الصغيرةِ  كما  يصفها  الكاتبُ  فيقول: تعرَّفنا  إلى أسماء  لم  نكن  لنعرفهَا  في المناهج  الأدبيَّة  المقرَّرة، ومن  خلال  النقاشاتِ  التي تدارُ  نتعرفُ  على إنتاج  وروائع  كبار الكتاب والشعراء في العالم  العربي والكتاب العالميين.  ويتحدَّثُ الكاتبُ  بتوسع عن الحلقاتِ الأدبيَّةِ  التي كانت  تقامُ  يوميًّا .  وكان  يتمُّ  نسخُ  الكتب والدواوين الشعريَّة  بالحبر السائل، فلم  تكن  آلات  التصوير  متوفرة . وكانت الكتبُ  نادرة ً  ولا  تصلُ  من الدول العربيَّةِ  للداخل . وما  زال  الكاتبُ  يحتفظُ  بالعديدِ  من  الدفاتر نسخَ  عليها  الدواوين الشعريَّة  لشعراء  كنزار قباني  وفدوى طوقان  والبياتي  والسياب  ونازك الملائكة  في مكتبتِه  بالبيت.
ويختلطُ  الفاعلُ  والمفعول  بالطرمس  المملح والفول!
    ويذكرُ الكاتبُ  لحظة  انفعاله  عندما  حمل  الميكروفون  أوَّل  مرَّة   في حياتهِ على المنصة  ليقرأ  قصة  قصيرة  من  تأليفه  أمام  جمهور غفير في مهرجان  أدبي  تحت  عنوان " قصة ونقد "  الذي عقد  في  جمعية  الشبان المسيحية  في الناصرة. 
   وفي نهايةِ هذا الفصل يتحدَّثُ  الكاتبُ عن  مدرسةِ الكراج -  تعليم  وسط ضجيج  الباعة -  ويصفُ  بالتفصيل  أجواءَ  المدرسة   التي  تقع  في  قلبِ  حارةِ   الكراجات   والمقالي  والصياح   والباعة   المتجولين    في   منطقة  الكازانوفا   ومقام   شهاب   الدين   وشركة    باصات   العفيفي   والمطاعم  والحوانيت  وسينما  أمبير  والناس .. إنهُ  مركزُ المدينةِ .  يقولُ الكاتبُ: في هذا  المركز   تقعُ   المدرسة ُ  الابتدائيَّة   ومديرها     سليم   توفيق  الأحمد  " أبو  هشام "   ويكون  درسُ  اللغة  العربيَّة  عن   الفاعل   والمفعول   به ..فينطلقُ  صوتُ الباعةِ "فستق حلبي.. بزر.. طرمس  فول  مملح،  ويختلطُ  الفاعلُ   والمفعول   بالطرمس  المملح   والفول!..  ويتابع :  ويكونُ  درسُ الجغرافيا عن  سلسلةِ  جبال الهملايا  وامتداداتِهَا   الأوروبية.. ومن حانوت الخضار  ينطلقُ  الصَّوتُ :  خيار بلدي  يا  خيار.. أصابيع  الببُّو  يا  خيار! ويختلطُ   الخيارُ   البلدي   بجبال   الهملايا   وإيطاليا    وسويسرا   وألمانيا  وغيرها  من البلدان  الأوروبيَّة  إلخ .  
 إنها  صورة ٌ كاريكاتيريّة  تهكميَّة رائعة .  وفي نهايةِ الفصل يقولُ الكاتبُ: ويغزو غزلُ  البنات  وأسكيمو  بريكس  درس  الفيزياء  فيخرجُ  أرخميدس  ويصيحُ  عاليا : يوريكايوريكا ... 
 بيئة ٌ تعليمية مُثلى  في عصر ما بعد الحداثة!
من مدينة البشارة..إلى عروس الكرمل
  وينتقلُ الكاتبُ  إلى الفصل  والقسم الأخير من  السيرة  بعنوان: من  مدينةِ البشارة  إلى  عروس  الكرمل  ( ص 135 - 292  )  فيتحدَّثُ  عن  انتقال  العائلة  إلى حيفا  وعن  حياته  هناك  وصولا  إلى  الفترة  الحالية  وبتوسع .. وهذه المرحلة زاخرة ٌ بالأحداث ِوبالمشاهد  الهامَّةِ التي أصبحت  تاريخًا  ثقافيًّا  وأدبيًّا . وكان سببُ  انتقال عائلةِ  الكاتب إلى حيفا  الأستاذ  نور الدين العباسي: فقد  كان لوالدهِ صديقٌ حميم  وهو  شخصية تربوية مهيبة  واسعة  الاطلاع ، إنه  نور الدين العباسي  والد الشاعر عصام العباسي .   فقد  أقنع الأستاذ  نور الدين  والدَ الكاتب بالانتقال والعيش في  حيفا  لأنهُ  يوجدُ  فيها العديدُ  من  العائلاتِ  التي   أصلها   من  مدينة   صفد   وتربطهم   أواصر الصداقة  والقرابة ُ.. فاقتنع  الوالد  وانتقلت عائلة ُ الكاتب إلى حيفا.. وكانت صدمة كبيرة لعبد الله في البدايةِ لأنهُ نشأ وترعرعَ  في الناصرة  ولهُ الكثيرُ الكثير من الأصدقاءِ والمعارفِ  فيها . "فأنا  أعرف الكل.. والكل يعرفني".  وفي حيفا  كانت البداية ُ صعبة ،  فمَكثَ  مدَّة  هناك بدون عمل. فقد توجه بالرسائل  إلى المكاتبِ والمؤسساتِ  المختلفةِ  طلبًا  للعمل،  وكانت جميعُها ترد  ردودًا  سلبية  بالرغم   من  كونهِ  أنهى  دراسته  الثانويَّة   ويتقنُ  عدَّة  لغات..وفي النهايةِ نجحَ  في الحصول على عمل في بنك  باركليز  بمساعدةِ صديقه الشاعر المخضرم مؤيد  إبراهيم .
**
لقد ساعد الكاتبُ والده في إعالة  العائلة  والإخوة . ثم  التحق  بالجامعة  في حيفا وكان يشتغلُ  في النهار وبعد الظهر وفي ساعاتِ المساء يذهب لسماع المحاضرات  الجامعية .  وفي النهاية حصلَ  على  اللقب  الأول . 
وكان  لهُ دورٌ كبير ونشاط  مميَّز في البنك  حيث  استطاعَ  أن  يجندَ  مئات الزبائن  وملايين  الليرات، ولكن  بدل  أن  يلقى  ترقية ً المناسبة  لإخلاصه وعطائه..  فقد  "كوفئ "بالمماطلة  والتسويف  والمواعيد  العرقوبية .  فقدَّمَ  استقالتهُ  وتابعَ  تعلمه  للقب  الثاني  في الجامعة العبرية في القدس.
ثم عرضت عليه الكلية الأرثوذكسية العربية في حيفا أن يلتحق بسلك التعليم ويدرس اللغة العربية. وفي هذا الموقع التعليمي والتربوي  بذلَ  كلَّ  طاقاتهِ وخبرتهِ وحمل رسالةِ التعليم  المقدَّسة التي آمن  بها إيمانًا عميقًا. وعلى يديهِ  تخرَّجَ  الآلاف  من  الطلابِ  الذين  أصبحَ  الكثيرون  منهم   فيما  بعد  من قيادات المجتمع ويتبوأون المناصبَ الرفيعة، فمنهم  المعلم والطبيب وعضو  البرلمان  والمحامي والقاضي والشاعر والمهندس والعالم ..إلخ. وتعتبر هذه  الكليَّة من أهمِّ  صروح  التربية في البلاد وقد درَّسَ  فيها اللغة العربية قرابة  31  سنة، وعَلَّمَ  حوالي عشر  سنوات  أيضًا  في الكلية الأكاديمية   للتربية "أورانيم" حتى أصابتهُ الوعكة الصحية، فتوقفَ عنعمله  في التعليم وتفرَّغ للكتابة  والنشاطات الأدبِية والثقافية  والاجتماعية. ومن  أعمالهِ الكتابيَّةِ  في هذه  الفترة  السيرة  الذاتيَّة ( بين مدينتين) التي  نحن  بصددِهَا .  كما  عملَ  محررًا أدبيًا  في صحيفة "الإتحاد " وأصدرَ العديدَ  من الكتبِ  وخاصَّة في مجال الأدب  وقواعد اللغةِ العربيَّة  التي  تعتبرُ  من  أهمِّ  المراجع  لطلاب الإعداديَّة والثانويَّة. 
     وفي هذا  الفصل  يستعرضُ  الكاتبُ  الكثيرَ  من  الذكرياتِ  والمشاهد، وخاصَّة  صداقته  مع  أهمِّ  الكتاب  والشعراء، مثل: محمود  درويش  الذي  كان  صديقه  وجاره  وكانا  يلتقيان  يوميا   تقريبًا   ويجمعهما   الكثيرُ  من الذكريات، إلى أن كان  اليوم  الأخير الذي أرادَ  فيه  محمود  أن  يسافرَ إلى الخارج . وعشية  الإعداد للسفر، كانت جلسة  وداع  في غرفة  محمود  في شارع عباس..فأحسَّ  كاتبنا "فتحي" أنهُ  سيكونُ الوداعَ  الأخير ولن  يرجعَ محمود  إلى البلاد  حسب ما  قرأه  في عيونه.. وهذا  ما  حدث .  وفي  هذا الكتاب نرى  صورة  لهُ مع  محمود درويش وبعض الأدباء.. صليبا خميس ومحمد خاص وأحمد درويش  وجورج فرح  وعفيف سالم  وكمال بشارات في أمسية ثقافية في بيت محمود درويش. 

      ويصفُ  الكاتبُ الحياة َ في حيفا  بعد  أن سكنَ هو وعائلتهُ هناك  بأدقِّ وأصدق التفاصيل وعلاقة الناس مع  بعضهم البعض وكيف أنَّ معظمَ سكان  حيفا  هم  من القرى  والبلدات الأخرى  جاؤوا  للعمل وللسكن فيها،وخاصَّة  من القرى المهجِّرة.. ويذكرُ صداقتهُ  مع الشاعر  مؤيد إبراهيم  الذي هاجرَ إلى  أمريكا  ليسكن  مع   ابنهِ  المحاضر الجامعي  هناك،   والرسائل  التي تبادلاها  فيما  بعد . 
في جامعة حيفا
   ويذكرُ أيضا  كيف تعلَّمَ  اللغة العربيَّة  من معلمين  يهود  يرطنون  باللغةِ العربية . وكان  فتحي  من  المُؤَسِّسين  للجنةِ  الطلابِ  العرب  الأولى  في الجامعةِ (سنة 1967)  وكان عضوًا  قياديًا  نشيطًا واستطاعَ  مع  مجموعةٍ من  الزملاء  إصدار صحيفة  " الضوء الأخضر" وتتناولُ  أعدادُها  بعضَ المشاكل التي   يواجهها  الطلابُ  العرب في الجامعةِ.. وفي هذا المنبر كان التعبيرُعن الرَّأي في تدريس اللغةِ العربيَّة. 
مكتبة النور
 ويتحدَّثُ الكاتبُ عن المكتباتِ  والجلسات الأدبيَّة  والثقافيَّة  في  حيفا  ومن أهمِّ  المكتبات  الصالون  الأدبي "مكتبة النور"  لصاحبها  المرحوم  " داود  تركي"  والذي   أصلهُ  من  قريةِ  المغار ( وهو الذي  أسَّسَ  فرع  الحزب الشيوعي  في  قرية المغار مع  المرحوم  والدي  والمرحوم   محمد عبد الله أبو نمر)، وكانت  مكتبتهُ  صغيرة  المساحة  ولكنها  حافلة  بالكتب   الهامَّة والقيِّمة في جميع المواضيع، وفيها أيضا تباعُ  الصحف والمجلات  العربية  والعبرية  والإنجليزيَّة. .وفي هذه  المكتبةِ  كان  يجري  الكثيرُ  من اللقاءاتِ  والنقاشاِت  بين   العديدِ  من  الكتابِ  في  أمور  الثقافةِ  والأدبِ   والسياسةِ  أو نقاش  وحوار حول كتاب جديد، وكان الكاتبُ  يحضرُ  ويشاركُ  في هذه النقاشاتِ، فيقول (ص 174): " لم  تكن "مكتبة النور" مكتبة ً عاديَّة  كباقي المكتباتِ التجاريَّةِ في عروس الكرمل، كانت مدرسة ً وكانت جامعة ً هادفة ومثقفة  وموجّهة  وملتزمة.  ولم  يكن   صاحبُهَا   بائعَ   كتبٍ  عاديًّا  كباقي  أصحابِ  المكتبات  و" الدكاكين الأدبيَّة "، كان  أستاذًا  مثقفًا ومُرشدًا، كان  همُّهُ  نشرَ الوعي الثقافي وكان  المثقفون من حيفا  والشمال  يؤُمُّون َالمدينة َ لزيارة  مكتبةِ  "النور" وفي  نفوسِهم  شغفُ  للارتواءِ  من  المنهل  الأدبي العذب.. وكانت  المكتبة ُ  ملتقى  الأحبّةِ  والأصدقاءِ  والكتاب  والشعراء ، مثل:علي عاشور ومحمد خاص وعصام العباسي  وعوده  الأشهب  وسميح القاسم    وسهيل عطا الله    وعلي رافع   وديب عابدي    ويعقوب حجازي  ومحمد ميعاري وجبران  كسابري وجمال عراقي ويوسف حمدان وآخرين.
من الجامعة العبرية..إلى الكلية الأرثوذكسية
بعد الحديث عن المكتبة  ِوالشخصياتِ الأدبية ِوالثقافيَّةِ التي  ترتادُهَا يتحدَّثُ   الكاتبُ  مرَّة ً اخرى عن عملهِ  في البنك وثقافته  وكيف وجد الأبواب مغلقة في سبيل تقدمه.. فقدَّم َ استقالته  بعد  أن  جنّد  للبنك  مئات الزبائن.. وحاولَ مراسلة  العديد من الجامعات خارج البلاد لدراسةِ موضوع الفنِّ  المعماري  وغيره   غير أنه لم ينجح في الحصول على  المنحة الدراسية الكافية  ليتابعَ  دراسته، وذلك عدا التكاليف الباهظة  للسكن والمعيشة في بلاد الغربة.  وفي نهاية المطاف  يواصل دراسته  في الجامعة العبريَّة  في القدس..وأثناء الدراسة  الجامعيَّة  يتصل  به المسؤولون  في الكليّة  الأرثوذكسيَّة  في حيفا  فيعمل مدرسًا  لموضوع  اللغة  العربية.   ويتحدَّثُ  عن  الأجواء  التعليمية والتربوية في الكلية ومستوى التعليم  فيها وكيف  قضى  31 سنة من عمره في التدريس  دون كلل أو ملل.  ويتحدَّث عن الدرس النموذجي الذي  قدمهُ  بطلبٍ  من مفتش  اللغة العربيَّة  الأستاذ الشاعر حبيب شويري.. وقد حضر الدرس  النموذجي  معلمون  ومربّون  لهم  تجربة  غنية  في مجال  التربية والتعليم.
عجنون..وجائزة نوبل
 بعد هذا ينتقلُ  إلى  مواضيع  أخرى، مثل جائزة  نوبل  التي  حصلَ  عليها  كاتبان  يهوديان الكاتب (شاي عجنون) مناصفة  مع  الكاتبة  اليهوديَّة (نيلي زاكس). في نفس العام  تأسست  مجلة " آفاق " الأدبيَّة  بمبادرةٍ  من  بعض الشعراء  والكتاب  وقرَّرت  هيئة ُ  التحرير  إجراء  لقاء  مع  الكاتب  شاي عجنون، ووقع اختيار هيئة  التحرير على الأستاذ  فتحي  ليجري  اللقاءً مع الكاتب لنشره  في المجلة.. ويتحدث  بالتفصيل عن  اللقاء  ونوعيَّة  الأسئلة، ويعترف عجنونُ أن هذا  اللقاء  كان أول  لقاء  له ُ مع  كاتب عربي ..ولكنَّ الكاتبَ  اليهودي   برفض  التقدير أن  تكون  الجائزة   أعطيت  لهُ  لأسبابٍ  سياسيَّةٍ ، وبأنَّ   إعطاءَها   لكاتبين  يهوديين  ينطوي  على  مغزى  سياسي  خاص، ويرفض عجنون  الطرح  الذي   يرى   أن  منح  الجائزة   ذو  بعد آخر..  وهو  تأثير اليهوديّة  العالميَّة  على  الأكاديميَّة  السويديَّة  التي  تمنحُ  الجائزة، أو أنها شكل من أشكال التعويضات الألمانيَّة للشعب اليهودي ..إلخ
مع محمود درويش..والقطة الشقراء
    وينتقلُ  الكاتبُ  بعد  هذا  إلى  مشهد  آخر يجمعُهُ  مع   الشاعر "محمود  درويش" في مقهى"يرتاح" في مركز الكرمل، ويتحدَّثان  سويَّة  في العديدِ من الأمور والقضايا وفي الهموم الحزبيَّةِ والعلاقاتِ مع  الشعراء الأصدقاءِ اللدودين  والأعداء الودودين..حتى وصلوا إلى مجلة  " الجديد"  التي  تولَّى محمود مهمَّتةفي تحريرها (ص199). ويصرِّحُ محمود  لفتحي أنهُ  في هذا اليوم وصلتهُ عبر البريد قصَّة ٌطريفة بعنوان " قطتي الشقراء"  آثر  كاتبها أن يوقعهَا باسم  مستعار"ابنالشاطىء" وأنَّ القصَّة َ أعجبتهُ  لكنه لا يستطيعُ نشرها بدون معرفةِ اسم كاتبها الحقيقي.
وينتقلُ محمود في الحديثِ عن إعجابهِ بالشعراء: لوركا  الإسباني وأراغون  الفرنسي   وبابلو  نيرودا التشيلي   وناظم  حكمت  التركي    وماياكوفسكي السوفييتي. فيبدي إعجابَهُ  بالأخير كثيرًا. ويقول محمود : " للشاعر حضورٌ طاغ  على  المنصَّةِ.. شخصيّته  الجذابة ،  قامته  المنتصبة  وطريقة  إلقائِهِ  وحركة يده ِالمشرئبَّة،هذه الأمور تفعلُ فعلَ السحر في جمهور المستمعين".  
وفي اليوم التالي في  مقهى آخر بحيفا كان لهما  لقاء آخر (محمود وفتحي )، ويقول محمود: إنه  لقد  اتصل بهِ  كاتبُ قصَّةِ "قطتي الشقراء"..ورغم  تردُّدِهِ في البدايةِ..إلا في النهايةكشفَ  لهُ عن  هُويَّتهِ  واسمهِ الحقيقي..فهو موظفٌ  في  دائرةِ  الجمارك في  حيفا والحذر  مطلوب.  ولم يكن هذا إلا الكاتبُ  توفيق فيَّاض صاحب  قصَّة   "القطة  الشقراء". 
راشدحسين..وحنين إلى الشمال
  وينتقلُ الكاتبُ  إلى  مشهدٍ  آخر   في  السيرةِ  بعنوان :  " حنين  قاتل إلى الشمال –  (ص201 )  فيتحدَّثُ عن  لقاءٍ  ثقافيٍّ  في   تل أبيب   بين  كتابٍ  وأدباءٍ  وشعراءٍ عرب ويهود (لقاء  يهودي عربي)،  ويقولُ الكاتُب  (كانت  أحاديث  وحواراتٌ  ونقاشات  بعضها  صادق  وبعضها أبعد  ما  يكونُ عن الصدق..حديثٌ مراوغ عن التعايش والسلام المفقود والحلم المنشود. وفي هذا اللقاء يسألُ الشاعرُ المرحوم راشد حسين  فتحي فوراني عن  الأصدقاءِ  في حيفا ( محمود وسميح  وعصام العباسي  وباقي الأصدقاء)  ويعبِّرُ عن رغبتهِ في أن  يرتبَ فتحي لقاءً في  بيتهِ يجمعُ  جميعَ  الأصدقاء  الصدوقين في الشمال،  وَيُعيدَ المياهَ إلى  مجاريها  الطبيعيَّة  بعدَ  أن  "جاعَ  التاريخ " وكاد  أن  يأكلَ  أبناءَهُ.، وانطلقَ إعصارُ  تسونامي  كادَ أن  يدمِّرَ العلاقات الحميمة بين الأصدقاء المرابطين  في الخندق الثقافي الواحد..
ويتمُّ  اللقاءُ  في غرفةِ  المكتبةِ  في  بيت فتحي التي  كان  يَؤُمُّها  العديدُ  من الأصدقاء والكتاب  والشعراءِ . ويكون اللقاءُ  أدبيًا  حميمًا.. تحدثوا  فيهِ عن  مقالة راشد الشهيرة  "حين يجوع  التاريخ"  التي  نشرها في مجلة "الفجر" في  فترةٍ  حالكةِ مرت بها القوميَّةِ  العربيَّةِ، سادَ  فيها التوتر بين  الناصريَّة  والشيوعيَّة . وكان راشد  يوم  أن  كتبَ هذه  المقالة  ابن 24  سنة .   وتمتدُّ السهرة  حتى ساعات  الفجر الأولى.
وبعد أيام  يعاود راشد مواصلة مشوارَه الذي بدأهُ  و ينشر إبداعَهُ في  مجلةِ "الجديد " التي  رأَسَ  تحريرَها  محمود  درويش .    ويقولُ الكاتب فتحي: (وتكونُ   مرحلة ٌ  جديدة  ونافذة  مشرقة ، ويعودُ  يوليسيز التائه  إلى  بيتهِ ..إلى جزيرتِهَ الخضراء..وإلى عشِّهِ الدافىء  بين الأهل  والأحبَّةِ  الصادقين  (صفحة  206 ).
ألزيارة الأولى إلى الاتحاد السوفييتي                                وينتقلُ الكاتبُ   إلى  مشهد  آخر وتكون   جلسةٍ  في   مقهى"ريتس"  ملتقى  الأحبة  في  الهدار، وهو  ملتقى  الكتاِب   والأدباءِ   والمثقفين ويجتمعُ    فيه  بمحمود  درويش   بعدَ  عودتِهِ   من  زيارةٍ    للاتحاد السوفياتي،  ويحدثهُ  فيها  عن  الحياةِ   هناك  وعن   نفسيَّةِ   الإنسان  السوفياتي  وكيفية  معاملتهم   للغرباء، فقد   شعر محمود   كأنهُ  بين أهلهِ..ويبديرغبتهُ في أن  يزورَ الاتحاد  السوفياتي مرَّة  ثانية. 
وفي نفس هذا المشهد  يقولُ الكاتبُ: بعد  مسافة زمنيَّة  ليست  طويلة ينطلقُ راديو "صوت العرب" من القاهرة بنبإ نزول الشاعر الفلسطيني ضيفًا على أرض الكنانة.  ويقولُ الكاتبُ بحزن ( لقد عملها  محمود!  لقد  خسرتهُ!)  .. أي  لم   يَعُدْ  يراه  ويلتقي  بهِ  لأنهما   كانا  أكثرَ من  إخوة .  
   وينتقلُ الكاتبُ  فتحي  بعد  هذا المشهد  إلى عدَّةِ  مشاهد  أخرى، ومنها : مشهد  طريف  وهو  حكاية  جرت  للشاعر محمود  درويش  مع  الإسكافي (كندرجي)..فقد   كان محمود  كلما مرّ بالقرب منه  في الطريق  يطلبُ منهُ أن يمسح لهُ  حذاءَهُ  ويلمعهُ..ويروي كيف انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على عبقرية الشاعر. 
فدوى طوقان ولقاء تاريخي في حيفا
 ويتحدَّثُ  أيضا  عن  زيارةِ  الشاعرةِ   الكبيرِة  فدوى طوقان  لمدينةِ  حيفا بعد عام  1967 ولقائها التاريخي  بعدد من الكتاب والشعراء، منهم  محمود درويش وسميح القاسم  وحضره حنا نقاره  وحنا أبو حنا   وسلمى  الماضي   وعصام العباسي    وجورج  طوبي   وإميل توما   وفتحي فوراني   ومحمد ميعاري  وعلي عاشور  ونبيل عويضة  وآخرون .  وكان المضيف محمود درويش  وهو الذي  رتبَ  هذا  اللقاء.. ووجدت   الشاعرة  الكبيرة   في كلِّ   شاعر  وأديب   أخاها   المرحوم الشاعر  إبراهيم  طوقان ،  لأن  معظمهم  كانت  تربطهم صداقة وعلاقة مع أخيها إبراهيم ، مثل عصام العباسي وحنا  نقاره.  وسمعت منهم قصائد  لأخيها  تسمعها لأول مرَّةٍ وغير موجودة  في  ديوانه المطبوع. 
أمن الإمبراطورية العظمى في خطر!
   وينتقلُ الكاتبُ إلى لوحة أخرى  بعنوان: ( أمن  الإمبراطوريَّة   العظمى- في خطر - ص 228 ) فبعد  حرب  جزيران 1967  يستلمُ  أمرًا  عسكريًّا  يمنعهُ  من  الدخول  إلى  المناطق المحتلة ( الضفة الغربية وغزة )  والأمر  يتجدَّدُ  كلَّ  ستة أشهر . فقد   كان  معظمُ  السكان  في الداخل يسافرون  إلى مدن  الضفةِ ( القدس  وجنين  ونابلس )   لشراء  جميع  المواد  والحاجياتِ البيتيَّة كاللحوم والخضار والملابس وغيرها ..إلخ بأسعار  زهيدة  جدًا 
أبونا نقولا..و"اللعبة المبيوعة"!
 وينتقلُ الكاتبُ إلى مشهد  آخر فيتحدَّثُ عن الكاهن  نقولا  الذي  كان إنسانًا   وطنيًّا   شريفًا   حسنَ   السيرةِ  وطيب  السريرة   وذا  وعي  سياسيٍّ   وضمير  نقيٍّ لا  يسمحان  لهُ  أن  يسقط  في شركِ الإغراءِ - حسب قول الكاتب- .. فيتابعُ ( يحاولُ "الأخ الكبير" أن  يوقعَ الأبَ  نقولا في شراكِهِ حتى ينزعَ أبناءُ  رعيَّتهِ  ثقتهم  بهِ ، وتكون  وصمة َ عار على جبينه وجبين رجال الدين  الآخرين..فعندما  كان  مارًّا  في  سوق  عكا   تتوقف  سيارة ٌ "مَدنيَّة " بجانبهِ  وينزلُ  منها  شخصان فيسلمان عليهِ   ويعرضان  عليهِأن  يوصلاه إلى حيث يشاء، فيرفضُ ولكنهما  يحملانه  بشيء  من  القوة  ويدفعانه  إلى  السيَّارةِ  المدنيَّة ، ويشاهدُ  العكيُّون  هذا  المشهدَ  ويقولُ أحدهُم: اللعبة  مبيوعة.. وآخر يقول: هذه  أساليبهم  يريدون  تشويه  سمعة  "أبونا " .   أبونا  إنسان  شريف وعندهُ  كرامة  وحذاؤُهُ  أشرف من..
وتبوء هذه الوسيلة بالفشل الذريع. 
إخواتالشليتة!
     ويتابع الكاتبُ  الحديثَ  في  لوحةٍ  أخرى  بعنوان: (الرجلان  الفرنسي والإنجليزي  الصاعدان  من الجحور المظلمة -  ص  222 )،  فيتحدَّثُ عن عبد الله  مع   زميل  آخر ورفيق  درب كانا  بصددِ  تأسيس  دار نشر  تهتمُّ   بكتابةِ  المقالات  عن   الشؤون الإسرائيليَّة   وتزويد  الصحافةِ   الفلسطينيَّة   بالتقارير الصحفيَّة  والمقالات  والدراسات أسوة  بمؤسَّساتِ رسميَّة  أخرى تهتمُّ  بهذه المجالات. يتابعُ الكاتب: (يرنُّ الهاتف  ويأتي من الطرفِ  الآخر صوتٌ   أجنبي  باللغةِ   الإنجليزيَّةِ ،   ويدور الحديثٌ   مع  الكاتب  ويدعي الشخص أنهُ من بلجيكا وصاحب  دار نشر ويهتمُّ   بالأدب العربي ويعرضُ عليهِ  اللقاء  للتعاون.. ويتمَّ اللقاءُ   في  أوتيل  دان  في  مركز  الكرمل  مع صديقهِ الآخر.ويوضحَ الرجل الفرنسي  لهما  أنهُ  يملكُ  دارًا  كبرى  للنشر ويهتم   بترجمةِ  الأدب  العربي  إلى  اللغتين   الفرنسيَّة  والإنجليزيَّة ، وأنه وصديقه الإنجليزي تعاونا مع مترجم عربي  آخر وهما  غير مرتاحين  من هذا التعاون..ويكونُ الحوارُ عن الأدب العبري  وعلاقتهما (الكاتب وزميله)  بالكتاب والشعراء اليهود..وعن مدى التعاون  بينهم..ويمتدُّ الحوارُ إلى دائرةِ  الصراع  العربي الإسرائيلي ثمَّ الصراع  الإسرائيلي الفلسطيني  وعلاقتهما (الكاتب فتحي وزميله) مع الكتاب اليهود ومدى العلاقة مع الفلسطينيِّين.وتتمُّ  دعوة  الضيفين "المهذّبين" إلى  طعام  الغداء   ويتمُّ  الاتفاق  على  تحضير نصوص من الأدب  الفلسطيني  يقترح  ترجمتها  إلى  الفرنسيَّة والإنجليزيَّة ويترك "الضيفان"على الطاولةِ البطاقة  الشخصيَّة الأنيقة مع العنوان  ورقم الهاتف   في   بروكسل  وإنهما  سيغادران   البلاد   عائدين   إلى  بلجيكا !
ويعدُّ  الكاتبُ  مجموعة  من  القصص  لكتابٍ  فلسطينيين  مع  دراسةٍ  عن الأدب  الفلسطيني  أرسلت  جميعها   حسب  العنوان   بالبريد  المسجل  إلى  بلجيكا.وبعد  أيام  يعود البريد المسجل إليه ( للكاتب  فتحي)  مع  الملاحظة إنَّ  العنوان غير  موجود.. ويدركُ  الكاتب  وزميلهُ  رياض اللعبة   ويقولُ:  لقد عملوها  أخوات الشليته  إنهما  من "إخوان الصفا  وخلان  الوفاء"...لقد جاءا  في مهمّةٍ..والكلام مفهوم!
دموع   نزار.. وتاريخ  العربي القصصي
      وينتقل الكاتبُ بعد  هذا إلى مشهد  آخر  بعنوان "دموع   نزار  وتاريخ العرب  القصصي"- (ص 240) .. فقد  كان نجله  نزار طالبًا   في  الصف الخامس  الابتدائي  وكان  يستعصي على الطلاب فهم  المواد  في موضوع التاريخ، والسبب  هو المنهاج الدراسي  ومن  يقررهُ.. وسوء تأليف الكتاب. ويستخلص الكاتب أن هذا الكتاب يشكل روشيتة  ممتازة لجعل الطالب يكره تاريخه ولغته القومية. (عصفوران  بحجرواحد) على حدِّ قول الكاتب.
حادثة المحسوم

         وينتقلُ الكاتبُ  إلى مشاهد  ولوحاتٍ  أخرى  عديدة ، مثل: الذكريات  مع الشاعرالمخضرم  المرحوم عصام  العباسي  وحادثة  المخسوم (الحاجز العسكري)   عندما   كان  مسافرًا  من  رام  الله  إلى  نابلس  ولم   يكن  مع عصام  بطاقة الهُويَّة،  وأرادَ الجندي احتجازَهُ، ولكن الضابط في  المحسوم  عرفهُ، وذلك حيث  تذكرهُ  عندما  كان الضابط  اليهودي طالبًا  يتعلم  اللغة َ العربيّة في جامعةِ حيفا وعندما جاءَ عصام  إلى الجامعةِ برفقةِ  فتحي (عبد الله) كاتب هذه السيرة وعرَّفَ الطالب اليهودي عليهِ والذي هو الآن  ضابط   يأمر  وينهى  على المحسوم  وله القول الفصل.
الإنتماء الديني او الطائفي؟
وبعد ذلك  ينتقل الكاتب إلى عدَّةِ لوحات ومشاهد  متنوِّعة  وقصيرةٍ ، ومنها يتحدث عن  صديقهِ الحميم (عماد شقور) الذي قضى معهُ أربع سنوات وفي نفس الصف إثناء الدراسة  وقد غادرَ الوطن  ويرجعُ  بعد  أكثر من أربعين عامًا  فيتصلُ الكاتبُ بصديقه عماد ويهنئهُ  بالسلامةِ  وعرفَ الأخير صوتهُ  رغم  مرور الزمن الطويل. وبعد العودة  يزورهُ  مرتين  في البيت  ويحتفي  بهِ  ويتحدَّثان عن  أيام المدرسة الثانويَّة  والذكريات الجميلة  والأحلام  التي آمنَ  بها  جيلٌ  بأكملهِ (صفحة 234) ..ويقولُ  الكاتب: "الإنتماء الديني او الطائفي؟ لم  يكن لهذهِ  المفردة  مكان  في  قاموسنا".  وفي ذات  يوم  ينوي عماد   شقور  زيارة  الكاتب  مهنئا   بمناسبة  عيد  الميلاد  المجيد.. وتكونُ المفاجأة ُ يكتشف المعلومة التي غابت عنهُ  ولم يخطر على بالهِ  طيلة  أكثر من  أربعين  سنة.
إميل حبيبي واللغة العربية
      وبعد هذه  اللوحةِ  ينتقلُ  إلى  لوحةٍ  ومشهدٍ آخر بعنوان: "قوس قزح: إميل حبيبي واللغة  العربيَّة) - ويذكرُ الكاتبُ  انَّ الكاتب  إميل حبيبي  كثيرًا  ما   كان   يتردَّدُ  على  صالون  الحلاقة   الذي   يديرهُ   والدُهُ  " أبو فتحي الصفدي " وتنشأ  بين إميل حبيبي وعبد الله  علاقة ٌ وديَّة  عزَّزهَا  إعجاب  الطالب  بأستاذهِ  وتقدير الأستاذ  لطالبهِ  الذي يطمح لأن يقتدي بالكبار..كان عبد الله ( فتحي) في الصف الثامن  وكان  أبو  سلام  على  ظهر  خيلهِ  في "الطابق العاشر"من المؤسسة الحزبيَّة، ويعجبُ  عبد الله  بشخصيَّةِ  الرجل  شابًا  وسيمًا  جميل الطلعة.. مثقفًا  أنيقًا  وخطيبًا  ساحرًا خفيف الظل عرفَ  كيف يستحوذ على مشاعر الجماهير في الاجتماعاتِ  وفي مظاهراتِ  أول أيار، وعرفَ كيف ينتقدُ ويسخرُ من "البابِ  العالي" ( المقصود  المؤسَّسة  السلطويَّة)  ويمسحُ  بهِ الأرضَ. عرفَ   كيف  يكون  عريسَ   المظاهراتِ  السياسيَّةِ  الحاشدة  والمناسبات الوطنيَّة الأخرى .. يتحدَّثُ  الكاتبُ  ويصفُ  كيف  كانت  تقامُ  المهرجاناتُ  الخطابيَّة ُ السياسيَّة  الحاشدة، وكان الشباب  في  ذلك  الوقت  (في جيل فتحي) ينتظرون كلَّ مناسبةٍ وكل اجتماع  شعبي أو  مهرجان خطابي لسماع والاستمتاع   بخطاب  إميل  حبيبي..ويتحدّثُ  عن عمل إميل  في جريدةِ  "الإتحاد" (كان رئيس تحرير الجريدة) وعلاقته  مع المحررين وكيف كان يهتمُّ  كثيرًا  في  تدقيق اللغةِ  العربيَّةِ  ولا يسمحُ  بأيِّ خطإ   لغويٍّ  من  قبل  المحررين.. وعملَ على  تطوير "الاتحاد"  إلى الأحسن والأفضل والأرقى وأصبحت تصدرُ يوميًّا  بدلَ يومين في الأسبوع بفضلهِ.  وعرضَ إميل على  فتحي أن يشارك في  الاجتماع  اليومي  لهيئة التحرير لتقديم   الملاحظات  اللغوية  على  عدد  "الاتحاد"  ويكرسَ  ثلاثة   لقاءات في  الأسبوع  لتقديم   دروس في قواعد  اللغةِ  العربيَّة   للمحررين، ولفت  الانتباه   إلى  الأخطاءِ  النحويَّة  والإملائيَّة  الشائعة..وفي الآن  ذاته  أن  يُخَصِّصَ  أيضا   زاوية   في  "الإتحاد "  للأخطاءِ  الشائعةِ   في  اللغة العربيَّة..وكان للمرحوم إميل  حبيبي ما أراد..
واستمرت اللقاءات  مدة سنة وكان ميلادُ  زاويةٍ  جديدةٍ  في "الإتحاد " كان عنوانها  "قوس قزح" امتدت على ثلاثين حلقة  أسبوعيَّة  تقريبًا، خصصت  لبحثِ الأخطاء  الشائعة  في اللغة العربيَّة. 

أللغة العربية في الكلية الأكاديمية "اورانيم".
 وينتقلُ  الكاتبُ  إلى عنوان  جديد  ومشهد  آخر: "اللغة العربيَّة  في  الكليَّة  الأكاديميَّة  للتربية  "أورانيم" .  فيذكرُ  كيف  أتصلَ   بهِ  أحدُ المسؤولين وعرضَ عليهِ التدريس في الكليَّة،  وكان  وقتها  يعلمُ  في الكليَّةِ الأرثوذكسيَّة..ووجدَ الكاتب فتحي أنَّهُ في هذا الموقع "أورانيم" يستطيعُ أن يخدمَ ويساهمَ  في رفع  شأن اللغةِ العربيَّة. وقد عملَ على إصدار مجلة "بدايات " لتشجيع  المواهب الواعدة.  وكان عضوًا في  هيئة تحرير مجلة " كاف  نطوي"  السنويَّة  التي   تصدرُ  في  كلية  "أورانيم"  وتفتحُ  صدرَها  للطلاب  والمحاضرين  باللغتين  العربية والعبريَّة. 
ألكلية الأرثوذكسية العربية
  وينتقلُ الكاتبُ  ويتحدَّثُ عن  الكليَّةِ  الأرثوذكسيَّةِ  وكيف  كان  يتعلَّمُ  فيها الطلابُ  من مختلف القرى والبلدان العربيَّة ( من الجليل والساحل  والمثلث والنقب) بالإضافةِ  إلى  مدينة  حيفا .  وكانت تحتضنَ الجميعَ  على مختلفِ انتماءاتهم الطائفيَّةِ، وكانت  صرحًا للعلم والثقافةِ والتربية والأدبِ  ومدرسة ً  للوطنيَّة  ترسلُ  أضواءَها  لتغطي  جميع  أبناء  شعبنا  الباقي  في  وطنهِ،
 وتحدَّثَ عن طريقة  وأسلوب التعليم، وخاصَّة  في موضوع  اللغة العربيَّة. وكيف  كانوا  يتعلمون  القرآن  ويدرسون  النصوص  القرآنيَّة   في  الأدب العربي..وكانوا  يتعلمون  عن الإنجيل المقدس..
ويتحدَّثُ الكاتبُ  بعد  ذلك  عن  تجربتهِ  في التدريس  التي  استمرَّت  أكثر من ثلاثين سنة،  وكانت  ناجحة ً ومثيرة. 
وينتقلُ بعد  ذلك إلى عدَّة  لوحاتٍ ومواضيع فيتحدَّث مثلا عن صديقه القديم المرحوم الشاعرمحمود  درويش بعد أن ذهب إلى المستشفى لإجراء  عمليَّةٍ  جراحيَّة  ووفاته في المستشفى.. وكانت  صدمة ً كبيرة ً لكاتبِ  هذه  السيرة  ولجميع  أصدقائِهِ  الذين  عرفوا  محمودًا  شخصيًّا  وكان جزءًا  من مرحلة الشباب  في  حيفا  والناصرة. 
    ويتحدَّثُ أيضا عن  صديقه  القديم الكاتب  توفيق  فياض  ولقاءاته  بهِ .. ويستعرضُ الكاتبُ  بعض الذكريات  مع  محمود  ودواوينه   الشعريَّة  التي أهداها  لهُ  مع  توقيعهِ   وهي  في مكتبته الخاصة في البيت.  
   وفي الصفحاتِ الأخيرة من السيرة الذاتيَّة يعرضُ الكاتبُ صورًا ولوحات عديدة  من  ذكرياتهِ مع  محمود..وذكرياته  في الكليَّة  الأرثوذكسيَّة  وعملهِ  في التدريس  فقد رأى في عمله هذا رسالة  مقدسة .  ويعرضُ الكاتبُ  أبياتا  شعريَّة  لإبراهيم  طوقان في مهنة التعليم على لسان معلم- (الشاعر إبراهيم طوقان عملَ في مهنةِ التدريس وعانى منها كثيرًا) : 
(" يا  من  يريدُ  الانتحارَ  وجدتهُ      إنَّ   المعلِّمَ    لا   يعيشُ   طويلا "
  وأمّا الكاتبُ فقد  اختارَ هذا  الطريق (مهنة التدريس)  إيمانا  منه  وبقناعة تامَّة أنَّ  هذا هو الطريق الصحيح لبناءِ إنسان جديدٍ  ومجتمع جديد ومستقبل  أفضل  لأولادِنا  وأحفادنا  ولجميع أبناء شعبنا.  
 والكاتب ينسبُ هنا للشاعر "عبد العزيز الدريني"بيت الشعر المشهور: 
( مشيناها خطى كتبت  علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها).
وهذا البيت  من قصيدة قديمة ومشهورة وقد  نسبت لأكثر من شاعر.  ويقولُ الكاتب: لقد اخترنا أن نمشي على الشوكِ بمحض إرادتنا..إخترنا  أن  نسلكَ  دربَ الآلام  والتضحيات لاختراع  المستقبل  الأروع .  وهو أشرفُ الدروب ( صفحة  275) . إخترنا  أن  نحملَ  أشرف  الرسائل، وأن  نكونَ شمعة ً تحترقُ  حتى  تنسفَ  العتمة المكدسة في دروب الأجيال الصاعدة ..  إلخ .    
  وفي نهايةِ السيرة الذاتيَّة يتحدَّثُ الكاتُبُ عن مرضِهِ وكيفَ أصيبَ بالسكتة الدماغيَّةِ  ويصفها  كما يلي: 
(" نقطة  صغيرة   بقدر حجم   رأس  الإبرةِ.. بقدر الذرة..  غيَّرت  مجرى  حياة  إنسان..خلقت  إنسانًا  آخر  وعالمًا  آخر. .ومن  بين الأنقاض  تنهضُ الإرادة ُ العنقاء..وتفجرُ  ينابيعُ الإبداع"،  أي أن العمل المتواصل  في مهنة التدريس وحرق الأعصاب  كان  السبب  في السكتة الدماغيَّة.. وبالتالي هي التي مهدت الطريق لمتابة السيرة الذاتية. وبعد هذا  توقف  عن التدريس.  وبعد  أن  تحسنت  حالتهُ  الصحية   وبشكل   تدريجي  تفرَّغ   كليًّا   للأدب  وللإبداع   وكتبَ  هذه   السيرة  الذاتيَّة..  ويصف  الكاتبُ  السكتة  الدماغية بـ"بنتِالكلب"..ويذكر كيف أحسَّ  بها  وهو يعلم الطلابَ أثناء الحصة ..فجأة حدث  التغيير..فالأصابع  لا تطاوع.. وحركة اللسان تثقل  وبصعوبة، ينطق الكلمات  فيتوقف عن  الشرح  وينتهي الدرس..قبل أن  يكمل  للطلاب شرح  وتحليل  قصة  "عرس شرقي" لزكريا  تامر التي  يُدَرِّسُهَا.. وعندما  يذهبُ إلى الطبيب  يكتشفُ  حالته  الخطيرة   فيدخلُ   المستشفى  لأيام   وينصحهُ الأطباءُ بالامتناع  عن الانفعال والتعبِ والإرهاق  الفكري  والجسدي لأجل  الشفاء  وأن  لا  يحزن  أو   ينفعل..  وتنتهي  السيرة   بمشهدٍ   وحوار  بين الكاتبِ والطبيبِ  الذي  يعرضُ عليهِ  ما يجب  فعله  وبماذا  يجب أن  يتقيَّد به لكي  يشفى من مرضهِ.
**
تحليلُ الكتاب - السيرة الذاتية 
أولا..هذه  السيرة ُ كُتِبَتْ وصِيغت ونسجت  فصولها  ومشاهدُهَا  بلغةٍ  أدبيَّةٍ جميلةٍ منمَّقةٍ وسلسةٍ  وجذابة. والجديرُ بالذكر أن القلائلَ من الكتابِ والأدباءِ  والشعراء  العرب  المبدعين  الذين  يكتبون  سيرتهم  الذاتيَّة (  يعدون على الأصابع) وكثيرًا ما  تكون سيرة  ُحياتِهم  مختصرة ً ومختزلة  ولا  تتحدَّثُ عن كلِّ شيء في مسيرتِهم ومشوارهِم الأدبي والثقافي  وحياتِهم  الاجتماعيَّة  والشخصيَّة  وغيرها .. 
      وأما هذه  السيرة التي خطها  قلمُ الأديبِ المبدع الأستاذ  فتحي  فوراني   فهي متفردة ٌ مميزةٌ  بأسلوبها وتوجُّهها  ونكهتِهَا وعمقِهَا وصدقها وأصالتِهَا وتحتوي  في  داخلها عوالم  وليس عالمًا  مصغرًا .  ولو أرادَ أيُّ  محلل  أو ناقدٍ  أن يستعرضَ  ويُحَللَ  كلَّ  جانبٍ منها  وكلَّ  لوحةٍ  ومشهدٍ  لاستغرق  هذا  وقتًا  طويلا وسيملأ عدَّة  مجلدات ، ومن ناحيتي.. استعرضتُ  السيرة َ  وأحداثها  لأجل  قيمتها وأهميَّتِها  التاريخيَّة والأدبيَّة  والتوثيقيَّة  وطرائفها  وجماليَّتها. فهذه"السيرة" تمتازُ عن الكثيرمن السِّير الذاتيَّة..أنه رغم  طولها  واتساع  مساحتها  فهي ليست  مُمِلَّة على الإطلاق.ً.وهنالك مشاهد يعرضُهَا الكاتب  بالتسلسل  حسب  الفترةِ  الزمنيَّةِ  والتاريخيَّة  المتواصلة  في تتابع الأحداثِ. وهنالك لوحاتٌ  ومشاهدمختلفة، وكلُّ  مشهدٍ  منها  يختلفُ عن  الآخر  في  أحداثهِ  وموضوعهِ  وفترتِهِ  الزمنيَّة . فمثلا..يكونُ  يتحدَّثُ عن عملهِ  في الكليَّة  ِالأرثوذكسيَّةِ  وبعدها  ينتقلُ  مباشرةً إلى  ذكرياتٍ  لهُ  مع الشاعر محمود درويش  قبل أكثر من  45 سنة. وهذا  الأمرُ  يخرج السيرة من  جوِّ الرتابةِ أو السرد الممل، الأمرُ الذي يحدثُ  في الكثير من القصص والروايات  والسير الذاتية . 
 وتصلحُ هذه السيرة ُ الرائعة - حسب رأيي -  في أن  توظفَ  لعمل  دراميٍّ كبير، أي  أن  تمثلَ  وتعرضَ  كفيلم  أو مسلسل تلفزيوني إذا  ما  قام  كاتبُ  سيناريو قدير ومتمكن (الكاتب نفسه  أو كاتب غيره)  وعملَ على  ترتيبها  وإعدادِهَا  دراميًّا   لهذا  الغرض ، نظرًا  لقيمتِهَا  الفنية   وأحداثِهَا   المثيرة وشخصياتها   الهامَّة، الأدبية  والسياسة  والفكرية والاجتماعيَّة، فقد عرض الكاتب هذه الشخصيات وتحدَّثَ عنها بشكل  موسع، مثل  الشاعر محمود  درويش .  وهنالك  معلوماتٌ  ووثائق  وطرائف  القليلون  من  أبناءِ  شعبنا  يعرفونها، وخاصَّة عن جوانب غامضة وهامَّةِ من حياةِ  وشخصياتِ  العديدِ من الكتاب والأدباء الذين  لعبُوا  دورًا هامًّا، وكانت  لهم  بصماتٌ واضحة ٌ على  المشهد   الأدبي   والفكري   والثقافي   والإعلامي  فترة  الخمسينات والستينات من القرن  الماضي  بعد عام 1948،  والذين   ساهموا  في  بناءِ  الصرح الثقافي  والعلمي والأدبي والفني  ولهم الدورُ  القيادي  والرائدُ   في  مسيرةِ   أدبنا  وشعرنا  وإبداعِنا  الفلسطيني  في  الداخل.. فقد  سَدُّوا الفراغ َ الذي نتج بعد عام النكبة  1948  لأنَّ  أعدادًا  كبيرة  من الكتابِ  والمثقفين والعلماءِ والمبدعين الفلسطينيين هُجِّروا إلى  خارج  الوطن بعد عام  النكبةِ. وقد قال أحد الشعراء: 
مليونُ عان  في العراءِ تشرِّدُوا     لم   يضطربْ  لهوانهم  مسؤولُ 
** 
    وأما المواضيعُ والجوانبُ الهامَّة التي تطرحها هذه السيرة  فهي: 
1 - الجانبُ القومي والوطني
حيث يتحدَّثُ الكاتبُ عن التشرُّد  وعن مدينةِ صفد مهد الآباء والأجداد  وغيرها من المدن والقرى الفلسطينيَّةِ  التي هُجِّرَ سكانُها عنوةً عام  1948. 
2 –الجانبُ التاريخي  والتوثيقي
حيث  يعرضُ الكاتبُ  الكثيرَ من الأحداثِ   والأمورَ  الهامة  الشخصيَّة   والثقافيَّة  التي   جرت  بين  الأدباء والشعراءِ، ويذكرُ أسماء للعديد  من المبدعين  الذين لعبوا دورًا هامًّا  في تلكَ الفترة (فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي). ويذكرُ كيف  كانت  تقامُ  الندواتُ  واللقاءات  الأدبيَّة  في مدينةِ الناصرة  في الدكاكين والحدائق (جنينة  أبو ماهر) وغيرها ..وفي  صالون   والده  " أبو فتحي" .  ويذكرُ  أجواءَ  التعليم   في  الناصرة  ( في الخمسينات  وحتى  السبعينات  من  القرن  الماضي)   وكيف  كان   الباعة ُ  وأصحابُ الحوانيت  ينادون على  بضاعتهم  لتسويقها،   فتختلط ُ  أصواتُهم  بأصواتِ المعلمين في الدرس .  ويذكرُ أساليبَ  وطرقَ  التعليم  التي  كانت متبعة  آنذاك  والشدَّة  والضرب من قبل المعلمين للطلاب..غير أن مثل هذا الأمر ممنوع  اليوم  ويعاقبُ كلّ  معلم  قانونيًا  إذا  قام  بضربِ أيِّ  طالب. 
 وبالنسبةِ  للجانبِ  التاريخي   ففيهِ  تسجيلٌ  وتوثيقٌ   دقيقٌ  وصادق  للحياةِ الفلسطينيَّةِ  وللأجواءِ  التعليميَّةِ   والاجتماعيَّةِ   والاقتصاديَّة  في   الناصرة  وحيفا...وهذا  ينعكسُ  وينطبق أيضًا على  باقي  قرى ومدن فلسطين  حيث يعرضُ  أوضاعَ   الطلاب  من  مختلفِ   القرى  الذين  جاؤوا  إلى  المدينةِ (الناصرة) لينهلوا من منابع العلم في  فترةِ الخمسيناتِ والستينات. 
3 –الجانب الأدبي والفني المميز والراقي في هذه السيرة ..
  إن المستوى  الفني  لهذه السيرة  عال جدًّا،  وتذكرنا  بكتاب  السير الذاتية التي كتبها الكتاب الغربيين..والكاتبُ مطلع  على الثقافاتِ  والآداب  العربيَّة والأجنبيَّة.. وهو  أستاذ   لغة   عربيَّة   ومتمكن   وضليعٌ  جدًّا   في  اللغات  الإنجليزيَّة والعبريَّة، وكان محرِّرا  ثقافيًّا  وأدبيًّا  في أرقى  وأعرق  جريدة  محليَّة (الاتحاد) وعاصرَ  وواكبَ  محمود درويش وكبار الكتابِ  والشعراءِ المحليين، ولهُ الخبرة ُ والدراية ُ والتمرُّس  في صياغةِ  ونسج  سيرةٍ   كهذه  بهذا  المستوى والعمق  وهذا  الجمال  والروعة  والإبداع.
4 –عنصرُ التشويق
 القصَّة ُ حافلة ٌ وزاخرة ٌ بالأحداثِ والمشاهد المتعددة  على مختلفِ أنواعها وألوانها  ومواضيعها، وفيها  الكثيرُ من الطرائفِ، وهي  مشوقة  بكل معنى الكلمةِ  وتغري  القارىء على إكمال  قرَاءتِهَا بدون توقّف.
5 -  الطابعُ  الشعبي
يستعملُ  الكاتبُ  العديدَ   من الأمثال  الشعبيَّة  ويعرضُ  الكثيرَ من الصور  والمشاهد  التي  تمثلُ  وتجسِّدُ  حياتنا    الفلسطينيَّة وأجواءَنا.
6–الجانبُ الفلسفي 
  في هذه السيرةِ فلسفة ٌمشعَّة ٌوشفافة وأهمُّها فلسفة الحياة  والكفاح  الشريف  والنظيف لأجل الاستمرار والبقاء والحياة الحرّة الكريمة..فعلى هذه الأرض  ما  يستحقُّ الحياة..وأنَّ الحياة َ بجميع أبعادها ومفاهيمها  ومضامينها والحلل التي  تتسربلها هي عملٌ  وكفاح .  
7 -  الطابعُ السياسي
يعرضُ  الكاتبُ  في  سيرتِهِ  الذاتيَّةِ  المطولَّة  العديدَ  من  الأمور  والقضايا السياسيَّة  من خلال  القصَّة.. وكيف  كانت  معاملة ُ السلطةِ  لعرب  الداخل (عرب الـ48)  في تلك الفترة..وكيف أن  شعبَنا الذي بقيَ في أرضِهِ ووطنهِ وفصِلَ  وَبُتِرَ عن نصفهِ الآخر ( الوطن العربي الكبير من المحيط  للخليج )  إستطاعَ  رغمَ   الظروف  القاهرةِ  والمآسي  والخطوب العصيبةِ  التي  مرَّ  بها  كفترةِ الحكم العسكري  البغيض وقانون الطوارىءالذي فرضَ عليه في الخمسينات  والستينات  من القرن  الماضي  أن  يبقى  محافظًا  على  هُويتِهِ   ولغتهِ   العربيَّةِ  وعلى  تراثِهِ  وحضارتهِ   وكرامتهِ  وقوميَّتهِ، رغم  سياسةِ السلطةِ  الجائرة  والغاشمة.. ويذكرُ أيضا  أجواءَ  وطابعَ  التعليم  في  الكلية العربية  الأرثوذكسيَّةِ  ( الصرح الحضاري  والفكري  والوطني  والقومي) ومنها   تخرَّجَ  أجيالٌ   وأجيالٌ   وأصبحوا  نبراسًا  ومشعلا  مضيئًا  للفكر القومي  وللإبداع في شتى المجالاتِ.. وكما هو  معروفٌ  فللمدارسَ الأهليَّة  استقلاليَّة ٌ  فكريَّة ٌ وإداريَّة ٌ أكثرَ  بكثير  من  المدارس الحكوميَّةِ  التي  تدارُ من قبل  وزارةِ المعارف..لأنَّ  المدارسَ الحكوميَّة  آنذاك  كانت  بشكل عام ترفض  تعيين  أيِّ معلم وطنيٍّ  وشريفٍ  ويُحبُّ  شعبَه ُ الفلسطيني وقوميتهُ وأمَّتهُ العربيَّة..ومثالٌ على ذالك: الأستاذ  فؤاد جابر خوري الذي  فصِلَ من مهنةِ  التعليم  رغم  مؤهِّلاتهِ  وكفاءاتهِ  العلميَّةِ  الفذّةِ ، وذلك  بسبب  مواقفهِ  الوطنيَّةِ  الشريفة.. والجديرُ بالذكر  أنَّهُ  كان هنالك  الكثير من المعلمين  في المدارس الحكوميَّة (في تلك الفترة) الذين  لم  ينهوا المرحلة ََ الابتدائية، ولا  توجدُ لديهم  أيَّة ُ مؤَهِّلاتٍ  أو كفاءاتٍ، فقد  ترقّوا ورفعوا إلى وظائف  عليا  حيث عينوا نوابا لمديريالمدارس ومفتشين. وكانت كفاءتهم الوحيدة ولاؤهم  السلطوي وابتعادهم عن  قضايا  شعبهم  وأمتهم  العربيَّة..وهنالك الكثيرُ من الأمثلةِ  والعيِّناتِ على  ذلك .  وأمَّا  المدارسُ الأهليَّة  فكان  وما  زال  فيها  الكثيرُ  من  الأساتذةِ  الوطنيين  والمناضلين الشرفاء الذين عملواعلى تربيةِ وتثقيفِ وتخريج أجيال واعدةٍ رائدةٍ أصبحوا أعلامًا ونبراسًا لأبناء شعبهم. والأستاذ فتحي فوراني واحد من هؤلاء الذين حملوا الرسالة.
8 –الجانب الإنساني
يتحدَّثُ  الكاتبويتوسَّع كثيرًا في هذه السيرةِ عن المحبَّةِ  والتعاون  والتعايش المشترك، وخاصة بين أبناءِ الطوائفِ المختلفة..فالإنسانَ  هو أخ  للإنسان.. والسيرة  تشعُّ  بالمفاهيم الأمميَّة  أكثر من  الأمور الوطنيَّة  والقوميَّة، ويبدو أنها  كُتبت  ليس  لفئةٍ وطائفةٍ  وقوميَّةٍ  معينة  بل  لكلِّ الشعوبِ  والأمم  في  هذه  المعمورة..فأيُّقارىء مهما كانت جنسيتُهُ وقوميتهُ  عندما  يقرأها  يشعرُ ويحسُّ أنَّ هنالك جوانب  وزوايا  وأمورًا عديدة  في السيرة تخصُّه وتعنيه، وبشكل عفوي وغير مباشر  يتأقلمُ  وينسجمُ  ويتفاعلُ  ويتناغمُ  مع  فصولها  ومشاهِدِهَا  الرائعة، وخاصة  في الجوانبِ الإنسانيَّة المحضة...وفي  الكفاح  الشريفِ  لأجل  الحصول على  لقمةِ  العيش  ولأجل  التعليم   والتثقيفِ  في  ظروف عصيبةٍ جدا مرَّ بها  شعبُنا الفلسطيني في الداخل وفي الخارج أيضًا بعد  نكبة عام  1948.  
وأخيرا..هذه السيرة ُ في نظري  هي  من أروع   وأجمل  ما  كُتِبَ من  سيرٍ ذاتية  في اللغةِ  العربيَّةِ  لكاتبٍ  وأديبٍ عربيٍّ، بمستواها  وعمقِهَا  وجمالها  وأجوائِها  الساحرةِ  والصادقةِ،  وتستحقُّ أن تترجمَ  إلى العديدِ  من  اللغاتِ  الأجنبيَّةِ  وأن  يُكتبَ  عنها  الكثيرُ  من  الدراساتِ  والأبحاثِ،  وأن  تُدرَّسَ وَيُحاضرُ عنها  في  الجامعاِت  والمدارس  والمعاهد  العليا .  وهذه  السيرة  تضيفُ  إلى أدبنا الفلسطيني المحلي والعربي  قاطبة  تحفة ً ورائعة  إبداعيَّة جديدة خالدة وبها سيرقى ويسمُو ويتألقُ أدبنا الفلسطيني المحلي أكثر وأكثر. 
**
وأخيرًا..نهنىءُ  الكاتبَ والأديَب  والمربي  والإنسانَ الإنسان الأستاذ  فتحي  فوراني على هذا  الإصدار القيم  والمُمَيَّز ونتمنى  لهُ  العمرَ المديدَ والصحَّة  والعافية  والمزيدَ  من  الإبداعات  الجديدةِ.
مبروك وإلى الأمام ..ومعا  وأبدًا على  هذا الطريق .